طاغور.. من الدواوين البنغالية إلى نوبل و العالمية


طاغور.. من الدواوين البنغالية إلى نوبل و العالمية

بعد 70 سنة وبضعة أشهر عن رحيله، مازالت قصائده تحكي عن عشقه للطبيعة البنغالية، فتصف تعلقه الكبير بالموسيقى والرسم، وحبه اللامنتهي للرواية والشعر والفلسفة، هو بكل بساطة أعظم شاعر من القارة الآسيوية، الذي أول الدواوين البنغالية إلى العالمية، هو الراحل "روبندرونات طاغور".
البداية
ولد طاغور في سنة 1861 وبالتحديد في السابع من شهر مايو في مدينة تاكوتا بالهند، هو من أسرة تنتمي إلى الطبقة الكهنوتية، من أب اشتهر بمكانته المرموقة وإصلاحاته في ميادين عديدة كالاجتماع والدين ونشاطه الواسع في السياسة، ومن أمّ أمية أنجبت 12 ولدا وبنتان، فكان طاغور هو الرقم 13 في العائلة، عرفت عائلة طاغور بالمال والجاه التي ورثته عن جدهم الأكبر، لكن طاغور في سن مبكرة أظهر ميوله للآدب والفنون، وهذا ما لاحظه معلمه الشخصي العالم "دفيجندرانات" الذي كان كاتبا مسرحيا وشاعرا، فعمل على صقل موهبته مبكرا، كما أن طاغور لم يكتفي بدراسة مختلف العلوم والفنون بل تعلم لغته الأم (اللغة السنسكريتيه) وأظهر قوته في رياضة الجودو، وهذا ما دفع معلمه بالتنبؤ له بمستقبل زاهر.
النضوج الفكري و بالبلوغ العقلي
لم يذهب طاغور كباقي الأولاد إلى المدرسة في صغره، لأنه كان يدرس في البيت على يد العديد من العلماء من بينهم "دفنيجندرتات"، لكن ببلوغه سن الثامنة بدا يكتب القصائد الشعرية، حتى أرسله والده في سن السابعة عشر إلى المملكة المتحدة لإكمال دراسة الحقوق، فاستغل طاغور تواجده في المملكة لدراسة اللغة الانجليزية، لكنه لم يكمل الدراسة وعاد إلى الوطن بسبب اشتياقه للأهل والعنصرية التي تلقاها من الانجليز كغيره من الهنود والبنغاليين في تلك الفترة.
بعد عودته، شعر والده ببلوغه ونضجه الفكري نظرًا للاحتكاك المباشر مع الانجليز والتعرف على الثقافة الغربية المعاصرة التي أدهشته، فزوجه سنة 1883 وهو في الثانية والعشرين من عمره، من فتاة تدعى "مرينا ليني" التي كانت لا تتجاوز 10 سنوات، ولهذا رفض طاغور فكرة الزواج في الأول، لكن العائلة ضغطت عليه باسم العادات والتقاليد، فـأنجب منها لاحقا ولدين وثلاثة بنات، وهذه التجربة أشعرته بالسعادة الفائقة فقال في أحد داوينه:
لقد هلت الفرحة من جميع أطراف الكون لتسوي جسمي
لقد قبلتها أشعة السماوات، ثم قبلتها حتى استفاقت إلى الحياء
إن ورد الصيف المولي سريعا قد ترددت زفراته في أنفاسها
وداعبت موسيقاي الأشياء كل أعضائها لتمنحها إهاب الجمال
 توفيت زوجته وابنه وابنته ثم والده في فترات متلاحقة مابين 1902 و1918 وهذه المآسي أدخلت طاغور في دوامة من الحزن لسنوات طوال، وتركت في قلبه حرقة لم يستطع إطفائها لا الدهر ولا حتى نعمة النسيان.
أعماله الأدبية والفنية
يعتبر نهر "بادما" في بنغلادش الملهم الأول لطاغور الذي قضى فيه عدة سنوات على قارب خشبي، استطاع خلال هذه المدة التقرب من الفلاحين ومقاسمتهم تعاستهم وفقرهم والمعاناة التي تلاحقهم منذ عقود، فكانت المناظر الطبيعية الممزوجة بالنسيم الآسيوي المنعش هو أبرز عنوان لقصائده الشعرية ورواياته النثرية، فكتب على ضفاف نهر بادما الكثير من أغانيه الرومانسية الدواوين الممتعة منها: سونار تاري والقارب الذهبي، وبعض المسرحيات كتشيتشر التي جسدت الصورة المتكاملة للريف البنغالي والحياة البسيطة التي جمعت اهله، بالإضافة إلى الظروف الطبيعية القاسية التي تواجه سكانه، والتحديات التي دفعت أغلب الناس لهجره في مطلع القرن العشرين.
لكنه في العموم كتب حوالي 25 مسرحية طويلة وقصيرة، وثماني مجلدات قصصية وثماني روايات متنوعة، إضافة إلى عشرات الكتب ومئات المقالات المختلفة من فلسفة وسياسية، كما أنه ألّف حوالي ألفي أغنية منها أغنيتان أصبحتا في بعد النشيد الوطني لبنغلادش والهند، ولا ننسى أنه في نهاية عمره وبالتحديد في سنه الستين أصبح يزاول هواية الرسم، فرسم الكثير من اللوحات وعرضها في العديد من المعارض أهمها معرض باريس، وهو الذي قال عن الرسم "عندما بدأت ارسم لاحظت تغييرا كبيرا في نفسي".
فكره المناهض
تميز طاغور بفكره المناهض للعنصرية والكراهية، فهو أول بنغالي ينبذ التعصب الديني في الهند وتجلى هذا في روايته بعنوان (جورا)، التي فضحت التعصب الهندوسي تجاه الإسلام والمسيحية واليهودية، وكلفته هذه الرواية الهجرة إلى إنجلترا حفاظا على روحه من همجية بعض المتطرفين الهندوس، كما أنه تصادم مع الزعيم الروحي الهندي "غاندي" الذي وضع بساطة كسلاح ضد الاستعمار الانجليزي، وهذا ما رفضه طاغور واعتبره تسطيحا بقضية المقاومة وإجهاضا ممنهج لها، كما أن طاغور هو من نادى بحب الجماعة على حب الفرد وكانت هذه النظرية من تجربته الشخصية بعد فقدان أمه وزوجته وابنيه في عشر سنوات فقط، وهو الذي رفض وسام الفارس الذي منحه إياه ملك بريطانيا جورج الخامس كردة فعل له على إبادة 400 هندي من طرف الجيش الانجليزي.
العالمية
كانت سنة 1912، هي سنة العالمية بكل معنى الكلمة، ففي هذه السنة سافر طاغور في رحلة بحرية إلى انجلترا، وفي أثناء الرحلة ترجم أحد دواوينه الشعرية إلى اللغة الانجليزية من باب المتعة فقط، والتي كانت بعنوان (جينتجالي)، وعند وصوله إلى لندن عرضها على صديقه "روثنستان" الذي أعجب بها إعجابا كبيرا فأخذها مباشرة إلى الشاعر الكبير" دبليو بيتس" الذي أبهر بها فقام مباشرة بتنقيحها وكتابة مقدمتها بنفسه، وعند إطلاقها، بيعت بسرعة كبيرة نظرا لروعة كلماتها وجمالها الروحي الصوفي البنغالي، الذي يصف أسلوب عيش الهنود بتقاليدهم وأعرافهم المتنوعة وثقافتهم الآسيوية المستوحاة من الطبيعة والتضاريس الجبلية، وهذه الدواوين هي التي دفعت طاغور لنيل جائزة نوبل سنة 1912 ووسام الفارس من الملك البريطاني جورج الخامس، وهو يعتبر أول شاعر آسيوي ينال جائزة نوبل في التاريخ.
النهاية
كانت نهاية هذه الرحلة المليئة بالانجازات الشخصية، والإبداعات الشعرية والنثرية، في شهر أغسطس سنة 1941 بعمر يناهز 80 عاما و في مسقط رأسه في تاكورتا. فهو من قال"لا تستطيع أن تقلع عبير زهرة حتى ولو سحقتها بقدميك" وهكذا نحن نقول له أن أعمالك مازالت شاهدة عليك ولو سحقها الدهر.

0 التعليقات:

إرسال تعليق