الـمـد الاجتماعي في الهند


الـمـد الاجتماعي في الهند
بات من الشائع هذه الأيام أن يقوم بعض الناس بعقد مقارنة بين الهند والصين ويخلصوا إلى أن الديمقراطية قد لا تكون صالحة مثلما يقال. ففي الهند، يقول هؤلاء، برغم انقطاع الكهرباء تعمد المصانع إلى الاعتماد على المولدات الكهربائية، كما أن المستثمرين قد يمضون سنوات في محاولة الحصول على صك ملكية أرض من أجل البناء. وفي المقابل، يبدو أن محطات توليد الكهرباء والمصانع والمدن العملاقة تنتشر بين عشية وضحاها في الصين حيث تعبر القطارات الأنيقة والحديثة المناطق الريفية، بينما يزدحم الهنود ويتكدسون على متن أو على سطوح عربات قطار بالية ومتقادمة.
إن هذه صور كاريكاتورية بالطبع: ذلك أن معظم الصينيين لا يستطيعون تحمل تكلفة السفر عبر القطار فائق السرعة؛ كما أن ميترو نيودلهي حديث وفعال. غير أنني عندما سألتُ عن المقارنة، لم يطعن مسئول هندي رفيع في إيجابيات دولة الحزب الوحيد في الدفع بمشاريع البنى التحتية إلى الأمام. ولكنه قال إن الهند لديها إيجابياتها وامتيازاتها أيضاً.
والواقع أن بوسع المرء أن يرى إحدى هذه الإيجابيات في الشهر الاستثنائي من الاهتياج والاحتجاج والبحث عن الذات الذي أعقب جريمة اغتصاب جماعي مروعة وقعت في نيودلهي في السادس عشر من ديسمبر.
وتفاصيل تلك الجريمة سردت مراراً وأعيد سردها، ويتعلق الأمر بشابة في الثالثة والعشرين من عمرها وصديقها استقلا ما كانا يعتقدان أنها حافلة عمومية ليجدا نفسيهما عرضة للضرب بوحشية، وفي حالة الشابة، فقد تعرضت للاغتصاب المتكرر قبل أن يلقى بها في أحد الشوارع وهي تنزف. وقد ماتت بعد بضعة أيام على ذلك.
غير أن ما لفت اهتمام الهنود إلى هذه الواقعة يتجاوز الوحشية العشوائية. ذلك أن قصة الضحية تشير إلى "تطلعات الهند الشابة والجديدة"، كما قالت لي المؤلفة والناشرة المدافعة عن حقوق المرأة أورفاشي بوتاليا، "ليس عن الأغنياء وإنما عن أولئك الذين أخذوا يستطيعون رؤية الفرص التي قد يقدمها بلد بصدد التغير".
فالضحية من عائلة فقيرة تشتغل في الزراعة ولكنها كانت تدرس لتصبح متخصصة في العلاج البدني. كما أنها من إحدى الطبقات الدنيا ولكنها كانت تلتقي بشاب من طبقة البراهمة. وكانا قد شاهدا للتو فيلمًا في أحد مراكز التسوق الجديدة بالعاصمة، وهي أماكن عامة باتت تسمح بالتواصل بين شرائح المجتمع بشكل واسع، أكثر من أي وقت مضى.
والراهن أن "الهند الشابة والجديدة" ردت على النهاية المأساوية التي لقيتها تلك الشابة المغتصبة بغضب فاجأ الموجودين في السلطة. ففي البداية، طالبت المظاهرات التي استعمل فيها "الفيس بوك" والرسائل النصية القصيرة بالانتقام من المغتصبين، ثم تطورت إلى مطالب بتوفير قدر أكبر من الأمن، وشوارع أكثر إضاءة، وعدالة أسرع، ثم ما لبثت أن انتقلت إلى حوارات أوسع حول الأفكار المسبقة ضد النساء في المدارس والبيروقراطيات والمكاتب -وداخل العائلات.
وغطت وسائل الإعلام الهندية النشطة الموضوع بكثافة ولم تمر عليه مرور الكرام. وفي أحد التحقيقات، تحدى طاقم قناة "سي إن إن- آي بي إن" الهندية أبًا تبرأ من ابنته بعد أن تعرضت لاغتصاب. فقد قال الأب: "كان عليها أن تحمي شرفها"، فردت عليه الصحفية: "هل كان ذلك خطأها؟".
ودعت بعض الصحف نساءً ليدلين بشهاداتهن ويروين قصصهن، بدون الكشف عن هوياتهن إذا كن يردن ذلك. فتحدثن عن جرائم قديمة لم تلق أي اهتمام عندما حدثت وكشفن عن بشاعة ويأس لا يمكن تخيلهما: اغتصابات في المنازل ظلت طي الكتمان، اغتصابات ترفض الشرطة التحقيق فيها، واغتصابات من قبل الشرطة لضحايا اغتصاب يبحثن عن العدالة. وقد شعر بعض الهنود بالغضب بسبب الكشف عن هذه الصورة للعالم.
غير أن العالم رأى شيئاً آخر أيضاً: الآلاف من الهنود وهم يتعبأون ليس كأعضاء في حزب أو طبقة أو ديانة معينة ولكن كأفراد يطالبون برد أقوى من حكومتهم وبالحديث حول ثقافتهم ومواقفهم ومدارسهم. والواقع أن الاحتجاجات تقوم على انتفاضة مماثلة للقواعد الشعبية والمجتمعية ضد الفساد العام الماضي. ولكن في هذه المرة، نظمت مظاهرات تضامن في بلدان أخرى مثل بنجلاديش وباكستان، بل ووصلت حتى مصر.
وفي الصين، "لم تبخل" وسائل الإعلام التي تخضع لمراقبة الدولة على هذا الموضوع بالاهتمام، تقول بوتاليا. فعلى رغم أنها عملت على مدى عقود على زيادة التوعية حول العنف ضد النساء في الهند، إلا أنها وجدت نفسها مستاءة من الأسئلة المنحازة للصحفيين الصينيين، "كما لو أن المرء لا يستطيع الخروج من منزله" في الهند. وأشارت إلى أن "الصين لا تفرج عن أرقام وإحصائيات موثوقة حول الاغتصاب".
ثم هناك اختلاف آخر أيضاً. ففي الهند (وكما في أميركا ما بعد حادث إطلاق النار في مدرسة نيوتاون)، لا يعرف المحتجون ما إن كانوا يستطيعون مواصلة مظاهرات الغضب لوقت كاف لجلب التغيير. أما في الصين، فإن حواراً وطنياً على الإنترنت كان سيستمر فقط خلال الوقت الذي سيعتبره الحزب الشيوعي ضرورياً.
والواقع أن كلا من الصين والهند نمتا على نحو مذهل خلال العشرين سنة الماضية، حيث نجحتا في انتشال مئات الملايين من مواطنيهما من الفقر. وبالنسبة لكل واحدة منهما، فقد أتاح النجاح فرصًا ضخمة جديدة وتحديات ضخمة جديدة أيضاً.
وبالنسبة للهنود، قد تكون إحدى تلك الفرص هي الفضاء السياسي الذي يسمح للناس بتغيير الأشياء إلى الأحسن، واعتقاد متزايد بأنهم ربما يملكون القوة للقيام بذلك.
فريد حياة - محلل سياسي أميركي
جريدة الاتحاد - ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»

0 التعليقات:

إرسال تعليق