قلب الهند النابض باللغة العربيّة!
أحمد فرحات
تعود العلاقات العربية الهندية إلى زمن سابق بقرون لظهور الدعوة الإسلامية الكريمة. فلقد عرف العرب الهند
في جاهليتهم، من خلال الرحلات التجارية البحرية التي كانت سفنهم تنقل خلالها البضائع
المتبادلة بين الجانبين. ولذلك اختلطوا بسكان المدن وأسواقها الواقعة على سواحل الهند
والسند، واستوطن بعضهم فيها، وتزوج من نسائها، وتعلّم لغتها، كما أثرت لغة الضاد عموماً
باللغات الهندية نفسها، فدخلت اللسان الهندي، مثلاً، كلمات عربية كثيرة. كما خالطت
اللسان العربي، في المقابل، كلمات هندية كثيرة: زنجبيل، كافور، قرنفل، مسك، السمهري
(الرمح)، الساج، المهند (السيف)..
على أن العلاقات اللغوية والثقافية، وحتى الاجتماعية،
بين الهند والعالم العربي، توطّدت على نحو أوثق وأقوى بعد ظهور الإسلام، ودخوله تلك
الديار، على يد التجّار العرب أولاً، الذين وثق بهم وبصدقهم وأمانتهم، كثيرٌ من الهنود
وحكّامهم أيضاً، فدخلت، بناءً على هذه الدوافع الأخلاقية التلقائية، أفواجٌ كثيرة منهم
الدين الإسلامي الحنيف، دونما أيّ ممانعة اجتماعية، أو سياسية، أو حتى دينية تذكر،
إذ يقال، إن الإسلام كديانة توحيد، أقنعت الكثير من الهنود، ممّن كانوا يعانون التمزق
والفرقة، جرّاء نظام الطبقات القاسي الذي كان يفرضه عليهم دينهم التعددي وقتها.
لكن أول علاقة سياسية وثقافية مباشرة وقوية، بين
الهند والعرب، كانت في القرن الثامن الميلادي، أيام القائد العربي محمد بن قاسم الثقفي،
الذي فتح بلاد السند والهند عسكرياً، وأسّس أول حكومة إسلامية مستقلة فيها، انضم إلى
كنفها كثير من العلماء والدعاة العرب، ممّن وفدوا إلى تلك البلاد لنشر الدعوة المحمدية،
واستطرادًا اللغة والثقافة العربية-الإسلامية، فأسّسوا مدارس دينية لتعليم القرآن وتحفيظه،
والحديث وتفسيره.. علاوة على تعليم فنّ الكتابة (الخط العربي) والأدب والشعر والبلاغة..
فانخرط كثير من الهنود في الديانة الجديدة، وانضموا بالتالي إلى الصفوف المؤازرة للحكم
العربي-الإسلامي الجديد في بلادهم.
استمر حكم العرب
المسلمين لمنطقة السند نحو 200 سنة تقريباً، كان خلالها يسافر كثير من العلماء والفلاسفة
الهنود إلى بغداد، عاصمة الخلافة الإسلامية، بغية المساعدة في تعريب العلوم المختلفة
من رياضيات وهندسة وطب وفلسفة وفلك..إلخ.
وأما مَن انخرط من الهنود والسنديّين في الجيش الإسلامي
العام التابع للخلافة، فقد نبغ منهم، ومن ذريتهم، شعراء وعلماء لغة وبلاغة لا يحصون،
منهم، على سبيل المثال لا الحصر، أبو عطاء السندي، وهو شاعر من مخضرمي الدولتين الأموية
والعباسية.. وابن الأعرابي، وهو من علماء اللغة والأدب والشعر والنقد والموازنات، وقد
ألّف كتباً كثيرة فيها.. ومن المحدثين الهنود، الذين ذاع صيتهم في الديار العربية والهندية
معاً، العالم الشهير أبو معشر نجيح السندي، صاحب «المغازي».
وفي العهد الغزنوي الفارسي، (بخاصة السلطان محمود
الغزنوي) الذي تلى عهد المسلمين العرب، وسيطر على مناطق شاسعة من الهند والسند، فقد
برز أيضاً لفيف من العلماء والشعراء المسلمين الهنود ممّن عرفوا العربية في العمق،
وألفوا فيها، ودرّسوها لأجيالهم، منهم: مسعود بن سلمان اللاهوري (1121م) الذي أنشد
شعراً بالعربية والهندية والفارسية معاً.
ومنهم أبوريحان البيروني، الذي استطاع أن يتألق بمؤلفات
خلدت اسمه، لا في تاريخ الهند فقط، بل على مستوى رقعة انتشار الحضارة الإسلامية في
العالم برمته. وضم بلاط السلطان الغزنوي كذلك، أسماء كبيرة وعظيمة، مثل الفيلسوف الفارابي،
والفردوسي صاحب «الشاهنامة»، وكان السلطان نفسه هو من أشار على الفردوسي بكتابة الملحمة
الشهيرة، ووعده بأن يكافئه على كلّ بيتين فيها بقطعة من ذهب.
تلى العهد الغزنوي، العهد الغوري الإسلامي، من خلال
قيادة شهاب الدين محمد الغوري (المتوفي العام1206م)، الذي جعل من دهلي (دلهي) عاصمته،
وأرسى دعائم الاستقرار والازدهار للحكم الإسلامي في الهند. وفي عهده عرفت اللغة العربية،
انتشاراً عريضاً، وتمّ تعزيزها بنشر الكثير من مراكز تدريسها، باعتبارها لغة القرآن
والدعوة.. وقد أثنى لاحقاً الزعيم الهندي المعاصر، جواهر لال نهرو (1889-1964)على شخصية
الملك الأفغاني شهاب الدين الغوري، باعتباره، أولاً، ملكاً إسلامياً حضارياً، منفتحاً
على الأديان والجماعات كلّها في الهند. وثانياً، هو أول من أسّس لدولة المواطنة في
شبه القارة الهندية، وبالتالي هو تفوّق على سابقه الملك التركي محمود الغزنوي، يقول
نهرو: «إن محمود الغزنوي، وإن كان عالماً أحبّ الثقافة والفنون، كان بمثل محتلّ أجنبي
للهند، أخذ كلّ شيء غالٍ ونفيسٍ إلى غزنة. وأما الغوري، فاعتبر الهند دولته ووطنه،
حيث كان من نسل الهنود الآريّين، وفهم الإسلام، دينه، كدين رحمة للعالمين جميعاً..
وحينما انتصر وهزم ملك دلهي، جعل دلهي عاصمة لدولته العظيمة، التي اتسعت إلى غزنة في
الغرب الشمالي، وأراد أن يبني الهند على بنيان مرصوص ويقويها».
ومع مجيء دولة المماليك، التي أسّسها قطب الدين أيبك
(المتوفي العام 1210م) في الهند، وأبقى عاصمتها، دلهي، حيث بنى فيها مسجدًا ومئذنة،
هما تحفة بديعة في المعمار الإسلامي، لا تزال إلى يومنا هذا مقصد زوار وسياح الهند
من مشارق الأرض ومغاربها.
في عهد السلطان أيبك، تحوّلت العاصمة دلهي إلى ملجأ
آمن وحرّ لكثير من العلماء والدعاة والفلاسفة، الذين هاجروا من بلاد ما بين النهرين،
بسبب هجمات التتار المتلاحقة. وقد برز من فقهاء العربية وعلماؤها في ذلك العهد، الإمام
حسن بن محمد الصغاني اللاهوري، وكان من متقدّمي عصره في مجاله، بحسب شهادات الكثير
من الدارسين. ومن مؤلفاته التي ذاع صيتها، ليس في الهند فقط، بل في الدنيا العربية
برمتها كتاب: «العباب الزاخر واللباب الفاخر» (عشرون مجلداً)، ويعتبر من مراجع اللغة
العربية.. والكتاب عبارة عن معجم أراد أن يجمع فيه المؤلف ألفاظ العربية من الكتب المشهورة،
وأن يصحّح الشواهد التي يوردها مؤلّفو كتب اللغة من الحديث والشعر. وقد اعتنى بالكتاب-
المجلد أئمة اللغة، قديماً وحديثاً، واعترفوا لصاحبه بالدقة والإتقان وغزارة المادة،
وعلميتها.
بعد استقلال الهند في
العام 1947، استمر دفق الشخصيات الهندية التي قدمت إسهامات جليّة للغتنا العربية الجميلة،
تعليمًا وتطويرًا ونشرًا. وفي هذا المجال نذكر اسم العالم الشيخ سليمان بن أبي الحسن
الدسنوي البهاري الندوي، الذي خلف مؤلفات كثيرة في الإسلاميات والتاريخ والأدب والشعر،
باللغة العربية طبعاً، والتي يقال إنه كان من أرباب المتضلّعين منها، أسلوباً واشتقاقاً
وسحر بيان حديث.
وهناك أيضاً الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي،
والذي اشتهر، إلى جانب كونه أحد رواد النهضة الإسلامية الثقات في الهند، بتأليفه كتب
تعليم اللغة العربية للأطفال المسلمين في الهند. ومن أشهر مؤلفاته الفكرية المتداولة
إلى يومنا هذا: «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟» و«الصراع بين الفكرة الإسلامية
والفكرة الهندية».
ونذكر أيضاً اسم الشيخ مسعود عالم الندوي (من مجايلي
الشيخ أبي الحسن الندوي)، المعروف عنه تعلّمه العربية كلغة أم له، حيث برع فيها أديباً
ذا أسلوب مترسّل، متطوّر، بزّ فيه، حتى أقران العربية الكبار في عقر دارها. وقد أصدر
مجلة عربية بعنوان: «الضياء».
وثمة أسماء كثيرة أخرى ومهمّة للغاية، خدمت اللغة
العربية في الهند، لا يتسع - مع الأسف- ضيق مساحة هذه المقالة لها.
وما تجدر الإشارة إليه، هو أنه حالياً في الهند،
ثمة أكثر من 25 جامعة كبرى تدرس اللغة العربية، وبعضها يخرّج طلاباً في الماجستير والدكتوراه
في هذه اللغة، كجامعة نيودلهي، التي زارها كاتب هذه السطور، بدعوة من رئيس قسم اللغة
العربية فيها، الدكتور أسلمي إصلاحي، ونائبه الدكتور مجيب الرحمان، وحاضر في أكثر من
200 طالب دراسات عليا، في موضوع المسار التطوّري للشعرية العربية الحديثة، وبخاصة من
خلال رموزها المعروفين في مجلات «شعر» و«الآداب» و«حوار» و«مواقف».
وكان لقاء نقاش مفاجئ
له في الصميم، أولاً، لجهة مستوى إلمام الطلبة الهنود باللغة العربية، خطاباً وكتابة..
وثانياً، متابعتهم الحثيثة والمعمقة لمسار الحداثة الشعرية العربية، وكذلك الأدب العربي
الحديث، من خلال الرواية المحفوظية، وما تلاها من روائيّي السبعينيّات والثمانينيّات
في الوطن العربي.. علاوة على إلمامهم المشبّع بالمحطات الإبداعية العربية الكلاسيكية
على مرّ العصور.. وكذلك إلمام هؤلاء الطلبة بالثقافة الإسلامية، وأساساً، فإن الذي
حفزهم على تعلّم العربية، هو كونهم هنوداً مسلمين في المقام الأول، ويريدون الحفاظ
على تراث ديانة آبائهم وأجدادهم، ليس كهوية دينية عصبية مغلقة، وإنما من بوابة العلم
بالشيء وتطوير العلاقة به في دولة هندية ديمقراطية تتطوّر باستمرار.
كما يلاحظ كاتب هذه السطور أن ثمة إقبالاً على تعلّم
العربية في الهند، من طرف مسلمين وغير مسلمين، لأسباب بحت اقتصادية، تعود، إما إلى
العمل في الدول العربية في مجال السلك الديبلوماسي الهندي فيها، أو للعمل في شركات
ومؤسّسات خاصة تقدّم فرصاً مادية مغرية في العالم العربي، وخصوصاً في منطقة الخليج..
أو كما أفادنا الدكتور أيوب تاج الدين الندوي، «بأننا بتنا في الهند، وبفضل ثورة تكنولوجيا
الاتصالات اليوم، أقرب إلى الجزيرة العربية، وسائر الدول العربية الأخرى، من مناطق
في الهند نفسها. فهذا العالم الإسلامي مرتبط حضارياً بعضه ببعض على نحو لا يحتاج إلى
برهنة. لقد بات نبض الشعوب العربية، يخفق في قلوبنا وأفئدتنا أكثر من ذي قبل»
* مؤسسة الفكر العربي
0 التعليقات:
إرسال تعليق