لغز المشهد الباكستاني


لغز المشهد الباكستاني
لا تبدو باكستان متفردة بين الدول فيما يصيبها من كوارث طبيعية من وقت إلى آخر؛ فالبلد الآسيوي المهم لكثير من الأطراف الدولية والإقليمية قد أصابته في العقد الماضي فقط كارثتان كبريان؛ الأولى تمثلت في موت وتشريد مئات الآلاف في أكتوبر عام 2005 من وقع زلزال رهيب ضرب شمال باكستان بقسوة، والكارثة الثانية تشرد فيها عام 2010 عدة ملايين من الباكستانيين وتوفي الآلاف بعد أن غطت السيول أجزاء واسعة من إقليمي خيبر بختون خاه والبنجاب، وزحفت على السند وبلوشستان بقسوة، وبلغت الخسائر المادية في الزلزال والسيول أرقامًا فلكية بسقوط المنازل ونفوق الحيوانات وهلاك الحقول والحبوب المخزونة وانجراف التربة وخراب شبكات الطرق التي تربط أنحاء البلاد بعضها ببعض.
أقول: ليست باكستان متفردة في هذه الناحية، فكثير من جيرانها وغير جيرانها؛ الآسيويين وغير الآسيويين، تصبّحهم الكوارث وتمسيهم؛ فاليابان صديقة دائمة للزلازل والبراكين والأعاصير، وإندونيسيا واقعها الجغرافي يعرّضها لغضبات البر والبحر على السواء، والصين الواسعة تطاردها الكوارث من شمال إلى جنوب، والهند المجاورة مصنع عالمي خطير للكوارث الطبيعية.
لكن ما دام الأمر كذلك، فما الفرق إذن بين حال باكستان وحال أخواتها الآسيويات القريبات الشبه بها في كثير من النواحي السكانية والطبيعية والجغرافية؟!
الدولة الغائبة
يخطئ من يظن أن مجرد وجود أرض وشعب وحكومة معًا يعني قيام دولة حقيقية؛ إذ إن العنصر الرابط بين هذه المكونات الثلاثة هو الذي يضمن صياغتها كأبعاض متشاركة في تأسيس الكيان السياسي الذي يسميه علم السياسة الحديث "دولة". إن مجرد وجود مكونات البيت لا يعني أن البيت قائم، إلا بعد صياغة هذه المكونات صياغة تُفقِد كل عنصر استقلاليته؛ في مقابل أن تصوغ به وبغيره كيانا آخر جديدًا يشبه المركبات الكيميائية في اختلاف خصائصها وتأثيرها ووظيفتها عن العناصر البسيطة التي تكوّنها.
إن عناصر "الدولة" الثلاثة لكي تستحق حمل هذا الاسم فلا بد أن تعمل في اتجاه واحد، وألا تتناقض في الهدف والوجهة والغاية، وألا يصبح الوطن وإمكاناته غنيمة يدور الصراع عليها بين أقلية حاكمة تريد أن تبتلع كل شيء، وأغلبية جائعة تسعى إلى أن تبقى على قيد الحياة بأي ثمن، وفئات تتحالف مع هذا الطرف أو ذاك ناظرة إلى مصالحها الفئوية والطائفية والعرقية دون المصلحة العامة للأمة والوطن.
إن مفهوم الدولة بمعناه الكامل لم يحضر في التاريخ الباكستاني القصير إلا قليلا، في حين أن الجارة القريبة في نيودلهي كانت أحسن حظا بكثير من هذا، مع ضخامة عدد السكان واتساع البلاد وتعدد مشكلاتها الدينية والعرقية والبيئية. ولا مجال بعد هذا للمقارنة بين الدولتين وبين اليابان بكل تأكيد، حيث أثبتت الدولة اليابانية بعنصريها البشريين (الحكومة والشعب) قدرة عالية على امتصاص أثر الكوارث العسكرية والطبيعية على السواء، وليست كارثة الزلزال المدمر أو "تسونامي اليابان" في مارس عام 2011 حالة فريدة في هذا الجانب.
إن عطاء العنصر غير البشري (الأرض) في اليابان أقل بكثير من نظيره في باكستان، إلا أن نشاط الحياة الاجتماعية وفاعليتها وتحملها لمسؤوليتها الحضارية وتوظيفها لحقها في الديمقراطية قد عوَّض ذلك بصورة تفوقت بها اليابان على كل دول العالم بلا استثناء، فما من دولة تنافسها على قيادة العالم صناعيا إلا وهي غنية طبيعيا أو لا قيود على صناعاتها العسكرية التي توفر لها دخلا هائلا.
وليس من قبيل المبالغة أن نقول إن العنصر البشري قد ظلم العنصر الطبيعي في باكستان، فلا هو تصالح مع تاريخه القديم والوسيط الذي شهد فترات زاهرة من التفوق العالمي أو الإقليمي ثقافيا وسياسيا، ولا أحسن توظيف العطاء الرباني في الطبيعة، ولا هو أنصف من نفسه بإثبات قدرته على إدارة الحياة الاجتماعية بما يضمن تطور الدولة وسلامة الحراك المجتمعي من المعاطب التي تقتل حاضر الأمم ومستقبلها على السواء.
ولا أريد أن أطيل الحديث عن أصل هذه المسألة، إلا أن الشخصية الوطنية في المنطقة عامة قد أصابها كثير من الالتواء من جراء السياسة الاستعمارية الإنجليزية التي بالغت في معاقبة الثوار إلى حدود مرعبة، وفرقت جموع الوطنيين، ودققت في سياسة قطع الأرزاق وتسليط الأفراد والجماعات ليعمل بعضهم ضد بعض. وفي الوقت نفسه لم تقم إلى الآن مناهج تربوية ودعوية كافية تعوض هذا النقص، وتعالج هذا الاعوجاج.
ولعل قراءة في صورة الواقع الباكستاني الحالي تؤكد هذه الإجابة على السؤال السابق، وأن مأساة باكستان تمثلها نخبتها المتلاعبة بمقدرات الشعب ومصالحه من أجل كرسي الحكم، وتشارك في ذلك مؤسسات وأجهزة تستعجل الثمرة؛ فتقطفها حراما، وتحرم منها أهلها.
قراءة في لغز المشهد الحالي
وبعيدا عن التنظير العام سيدخل بنا المشهد الحالي إلى قلب المعمعة الباكستانية التي كثر فيها اللاعبون، حتى لم نعد نرى الكرة بوضوح من كثرة السيقان المتصارعة عليها!! فقبل فترة التقى الزعيم الديني الباكستاني محمد طاهر القادري رئيس مؤسسة منهاج القرآن ذات النشاط الداخلي والخارجي الواسع، وصاحب الشعبية الواسعة في البلاد، التقى في مدينة لاهور بمئات الآلاف -حسب إحصاء أتباعه- من الباكستانيين المحتشدين -في إشارة رمزية- عند منارة باكستان التي أعلن عندها الزعيم الشهير محمد علي جناح عن قيام دولته.
أعلن القادري في لقائه الجماهيري أنه يريد العودة بالدولة إلى حُلم مؤسسها محمد علي جناح، والتخلص من "هذا النظام الذي منعنا حقوقنا"، وأنه "لا بد أن نحيا حياة كريمة، ولو انتزعنا حقوقنا منهم انتزاعا"، مؤكدا أنه لم يتلق الدعم من أحد، وأن الشعب هو الذي دعم بنفسه هذا الحشد الكبير.
والحقيقة أن شخصية القادري مثيرة لكثير من الجدل في داخل باكستان؛ فالرجل البارع في إدارته لأتباعه داخليا وخارجيا، والآسر في خطابته وأحاديثه، خرج من عباءة المدرسة البريلوية المعروفة بسمتها الصوفي، ولم تتفق عليه الآراء في الداخل ولا الخارج، بل تناقضت بين من يصفه بشيخ الإسلام ومجدد العصر، ومن يتهمه بالمروق من الدين تماما والعمل وفق أجندات غربية!
وقد عاد القادري بعد أسبوعين من بدء العام الجاري إلى حشد أتباعه من جديد، لكن هذه المرة في العاصمة السياسية إسلام آباد، والتي وعد بأن يحولها إلى "ميدان تحرير" آخر على غرار ميدان القاهرة الشهير، متوعدا بتصعيد الاحتجاج حتى تُستجاب مطالبه التي يعبر فيها -كما يقول- عن مطالب الجماهير.
قلبت حشود القادري عناصر المشهد الباكستاني، وأربكته في وقت كان يستعد فيه لانتخابات تشريعية عامة تأتي بعد تذمر شعبي طويل ومكتوم من سياسات حزب الشعب وطريقته في إدارة البلاد سياسيا واقتصاديا.
والحقيقة أن السؤال يدور حول توقيت التظاهرات أكثر مما يدور عنها ذاتها في بلد يعاني أصلا من كثرة الاحتجاجات، فقد كان الوقت أمام القادري طويلا ليعترض على سياسات الحكومة التي زادت الشعب فقرا طوال خمس سنوات كاملة، فلماذا اختار لحظة التخلص من حكم حزب الشعب بالانتخابات -كما هو راجح- ليلقي بثقله داخل المشهد السياسي المأزوم أصلا؟
وقد تنوعت الإجابات على هذا السؤال بقدر تنوع آراء الباكستانيين في طاهر القادري نفسه، خاصة أولئك الذين يرون أن القادري يقطع عليهم الطريق للعودة إلى حكم البلاد، وهو ما ينطبق بصورة أوضح على نواز شريف الذي مثل وحزبه (مسلم ليج نون) طوال عقودٍ البديل عن الراحلة بينظير بوتو وحزبها (حزب الشعب) وعن حكم الجيش، وكان نواز يستعد لإدارة البلاد حسب الانتقال الرتيب للسلطة منه وإليه في لعبة سياسية كشفت بوضوح مدى استعداد السياسيين للعب بالديمقراطية وتحويلها إلى غطاء معيب يكشف من السوءات أكثر مما يستر.
ويفسر بعض الخصوم تظاهرات القادري على أنها صفقة عُقدت بينه وبين طرف ما؛ لإعاقة العملية الانتخابية لصالح بقاء الرئيس الحالي في السلطة، أو لإثارة ما يكفي من الاضطراب في البلاد بحيث تتوفر الذرائع لتدخل الجيش في الحياة السياسية التي لم يمر على تركه لها سوى خمس سنوات منذ اضطر الجنرال السابق برويز مشرف إلى التنحي عن حكم البلاد أواخر عام 2007.
ولا يقف أنصار القادري صامتين بإزاء هذه التهم، ويحتجون بالإجراءات الحكومية التي تسعى إلى عرقلة حشودهم، من قبيل قطع الاتصالات الهاتفية، ومنع وقود السيارات أو التقليل من كمياته في محطات تموين السيارات لعرقلة الحركة إلى إسلام آباد أو التقليل منها.
ولا يبدو أن الدخول في صراع التحليلات سيكون مجديا مع أهميته في تفسير المشهد، إلا أن الواقع الباكستاني القريب سيكون -على كل حال- أمام توقعين متناقضين في حال نجحت حركة القادري في قلب الأوضاع السياسية للبلاد.
الأول: أن تبقى باكستان وشعبها الكبير رهنا لسياسة الصفقات المعهودة، والتي أفقدت البلاد عافيتها، حتى صارت شبيهة كثيرًا بالجارة الجريحة أفغانستان التي مزقتها الحروب خلال أكثر من ثلاثة عقود من الزمان.
الثاني: أن تمثل حركة القادري دماء جديدة تُضَخ في المشهد الباكستاني، تتجدد معها وظيفة رجل الدين في مجتمع ما زال يحتفظ بكثير من تقليديته، وتلغي التبادل الرتيب للسلطة بين أحزاب لا يفرق بعضها عن بعض إلا الأسماء والعناوين.
أما إن فشلت الحشود في الضغط على النظام، وتأجيل الانتخابات، وتكوين حكومة وحدة وطنية لإدارة البلاد خلال فترة انتقالية تمهد لانتخابات ديمقراطية حقيقية؛ ففي هذه الحالة ستُجرَى انتخابات ديمقراطية على الطريقة الباكستانية المعيبة، تنتقل فيها السلطة بصورتها الرتيبة من حزب إلى حزب بلا تغيير جوهري في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للدولة.
الجزيرة نت

0 التعليقات:

إرسال تعليق