شاهد بالفيديو :: طبقة المنبوذين
في الهند
يقول المؤرخون أنه على الرغم من أن الهند محاطة بحواجز
طبيعية عزلتها عن العالم على مر السنين إلا أنها تعرضت للغزو دائماً من الغرب حيث توجد
الممرات التي تصلها بالدول الغربية منها، فقد غزاها الآريون المنحدرون من أواسط آسيا
قبل الميلاد بنحو ألفي سنة. والآريون هم جماعات بشرية أطلقوا على أنفسهم لقب الآريين
ـ وتعني النبلاء أو البيض في اللغة السنسكريتية ـ لتمييز أنفسهم عن السود وهم سكان
الهند الأصليين.
وقد كان لهذه القبائل أثر كبير وواضح في تاريخ الهند،
فقد استطاعت أن تؤثر في تقاليدها وأوضاعها الاجتماعية وبالتالي في مستواها الاقتصادي.
وقد تولد من استعلاء الآريين الفاتحين على سكان الهند
الأصليين ومن احتكاكهم بهم، وطردهم من ميادين الحياة تلك التقاليد الهندوكية التي اعتبرت
على مر التاريخ دينًا يدين به الهنود ويلتزمون بآدابه، فقد كان دينهم نوعاً من عبادة
الطبيعة، وكان هذا الدين هو الأساس الأول للديانة الهندوكية التي نشأت نتيجة امتزاج
بين عدد من المعتقدات المختلفة.
وتطورت الهندوكية مع الوقت لتصبح فكرة فلسفية من أهم
مظاهرها الاعتقاد بنظام الطبقات الذي كان وسيلة للمحافظة على سلامة العرق السامي بعد
أن خيف عليه من الاندماج في الأجناس الأخرى التي بدأ يتصل بها .
وحينما لاح تحول الحياة البدوية والنظام القروي البسيط
إلى طور مدني، وظهور مدن صغيرة على ضفاف نهري الجنجا والجمنا كان من الطبيعي ظهور دول
إقطاعية كثيرة، يحكمها الإقطاعيون الآريون. ومن ثم تحول الآريون ـ رعاة الغنم والخيول
ـ إلى الحياة المدنية الأولى، وسارعوا إلى ممارسة كثير من الأعمال الزراعية والصناعية
في البلاد، تلك التي كان يشغلها السكان الأصليين حتى الآن. وفي مثل هذا التحول الكبير
في الحياة الآرية واجه الكهنة ظروفاً جديدة ومطالب عصرية تتطلب المحافظة على التفوق
الآري المتغلب الحاكم، ووظيفة الكهنة المستقلة المستبدة الطاغية على جميع الطبقات والعناصر.
ولذلك قسموا سكان البلاد إلى جماعات وفق الوظائف والمهن، وأعطوا الأولية للجنس الآري
الأبيض، وقرروا المكانة السفلى للسكان الأصليين السود. فقد خصصوا للآريين الوظائف السامية
تلك التي أصبحت من سماتهم البارزة فيما بعد وخصائصهم الجنسية، وأعطتـهم الدرجات في
المجتـمع الآري، كما وضعـت قوانـيـن ثابـتة لهـذه الطبقـات وقالوا إنها خلق فطري وربطوها
بالنصوص المقدسة بحيث أصبح من المستحيل الحيدة والتنصل عن هذه القوانين واللوائح وقد
أطلقوا عليها "قوانين مـانـو" التي قسمت المجتمع الهندوكي وفق الترتيب الآتي
:
(1) البراهمة Brahman : وهم رجال الدين والكهنة
ومهمتهم إدارة شئون المعابد والآلهة وسن القوانين والإشراف على التعليم والتربية وأداء
جميع المراسيم الدينية وطقوسها في المعابد وفي خارجها، وأصبح هؤلاء فوق جميع الطبقات
والمختصين بإله الآلهة وخالق الكون (براهما)، واعتقدوا بأنهم خلقوا من رأسه.
(2) كاشـتر Kshatriya: وهم الفرسـان وقـواد الجيـش والأشراف، وخلقـوا من
يـدي الإلـه (براهما).
(3) الويش Vaisya: وهم التجار والمزارعون وأصحاب المهن، وخلقوا من فخذه.
(4) شودرا Syudra (المنبوذون) : وهم المنبوذون، أصحاب
المهن الحقيرة، مثل: الكنس والنظافة، وغسل الملابس، وتنظيف الجلود، لأنهم من الجنس
الأسود، وخلقوا من رجله.
ووفق هذه القوانين واللوائح فرض على كل طائفة أن تعيش
في إطار جماعتها وتكون مجتمعاً منفصلاً فيما بينها، بحيث يتم الزواج والتناسل والحفلات
في نفس الإطار الطبقي. وقد طبقت هذه القوانين حرفياً وبحذافيرها بحيث لم يكن في مقدور
أحد أن يأكل أو يشرب لدى طائفة أخرى، وكذلك خصص لكل منها طقوس ومراسيم وتقاليد ومدارس
ومعابد.
وعلى هذه الأسس التي وضعتها الشريعة الهندوكية قامت
الحياة الاجتماعية للهندوس.. وظلت كذلك عبر القرون تزداد كل يوم شدة وتمكيناً وتزداد
كل طبقة إيماناً بموقفها من غيرها خاصة طبقة الشودرا "المنبوذين" الذين هم
أشد إيماناً بذلتهم من غيرهم فهم لا يسكنون مع بقية الأهالي، ولكنهم يتخذون لهم مساكن
في أطراف البلد في غاية الحقارة والضعة، ولا يحاولون أن يرتفعوا عن وضعهم، والجهل بينهم
متمكن اللهم إلا بعد أن انتشر التعليم حيث استطاع جماعة قليلة منهم التعلم ومن هنا
بدءوا يشعرون بمكانهم المهين في المجتمع فثاروا على الوضع الذي هم فيه ورفعوا أصواتهم
مطالبين بتغييره أو الخروج من الديانة الهندوكية التي تحكم عليـهم هذا الحكم القاسي
منذ عـشرات أو آلاف القـرون.. وحينئذ بدأ الناس حولهم يبحثون ويفكرون في الطرق التي
ينبغي اتخاذها لإرضائهم لكي يظلوا في الديانة الهندوكية أو ليجذبوهم إلى ديانة أخرى
يجدون فيها ما يطلبون من الإنصاف وقد كانت لديهم دوافعهم السياسية والدينية والإنسانية..
إن حركة المنبوذين تبدو كمسألـة اجتماعـية، ولكنـها
في الحقيقـة مسألـة سياسيـة ودينية من الطراز الأول، فالهندوكيون لا يهمهم في الواقع
أن يخرج عن ديانتهم هؤلاء المنبوذون والأنجاس، وذلك لأن التقاليد المحددة التي يسيرون
عليها تجعلهم غير قادرين على أن يتنازلوا عن امتيازات لهم على هؤلاء ، فليس يخفى على
أحد منهم أن تنازلهم هذا ـ إذا وقع ـ يؤدي إلى قلب كل تعاليم الديانة الهندوكية.
ثم إن هناك أمراً آخر ذا أهمية عظيمة، وهو أن الطبقة
الراقية بين الهندوكيين لا ترى لخروج المنبوذين الأهمية التي يفرضها الكثيرون، وذلك
لأن هذه الطبقة تعتبر المنبوذين "نجساً" في عقد النظام الاجتماعي، وهم لهذا
لا يهمهم خروج هذا العدد الكبير من الناس عن ديانتهم ليتحولوا إلى الديانة المسيحية
أو ديانة السيخ أو البوذية، ولكنهم يخشون محاولة المنبوذين تكوين وحدات سياسية أو أن
يتحولوا إلى مسلمين، فتتألف منهم ومن الوحدات الإسلامية الأخرى الكبيرة في الهند كتلة
عظيمة متجانسة يكون لها تأثير قوي في العالم الإسلامي قاطبة ،كما أن تمردهم وثوراتهم
وتهديداتهم المستمرة بالانضمام إلى الأديان الأخرى التي تحارب الهندوكية قد تؤدي إلى
قلب كل تعاليمها.
وإذا كنا لا نستطيع إغفال النواحي السياسية والدينية
والعصبية الهندوكية اللتان كانتا من أكبر دوافع الرعاية الاجتماعية للمنبوذين، فإنه
لا يمكننا كذلك إغفال الجانب الإنساني، فإن أقسى القلوب لتحس بالإشفاق لما يعانيه هؤلاء
المساكين من احتقار وازدراء.. ولا يستطيع أي إنسان أن يحس إحساساً حقيقياً بحالة هؤلاء
إلا إذا رآهم وشاهد وعرف عن قرب ما يلاقونه من هوان، وإن أي إنسان لا يستطيع أن يتصور
المهانة التي كان فيها هؤلاء والتي لا يزالون يرزحون تحتها، حيث لم يكن المنبوذون محسوبين
أعضاء بذلك المجتمع الهنـدوكي، ولم يكونوا تابعيـن له، فقد حرمهم المجتمع الهندوكي
حقوق الإنسان، ونزل بهم إلى مستوى أقل أحياناً من مستوى الحيوان. ولا يزال المنبوذون
يعانون هذا أو أكثره حتى اليوم، فالحرف الحقيرة وقف عليهم، ودور العلم لا تفتح أبوابها
لهم إلا قليلاً.
لذا، ظهرت جهود ومحاولات عظيمة تهدف إلى إنصاف طبقة
المنبوذين بوجه خاص وإصلاح أحوالهم وإنقاذهم من حالة البؤس والفقر من جانب والتخفيف
من حدة الطبقات الهندوكية أو إزالتها من جانب آخر.. ونجد هذه الجهود والمحاولات تتمثل
في المشاريع التالية :
1
ـ مشروع البعثة الأزهرية (جمعيات التبليغ) : والتي قامت بتقديم العقيدة الإسلامية لهؤلاء
المنبوذين من خلال الخُطب ودعوتهم إلى الدخول في الدين الإسلامي، دين المساواة الذي
لا يفرق بين جنس وجنس، ولا بين لون ولون، وتخليصهم من أركان الديانة الهندوكية التي
لم تقم إلا على مناقضات تاريخـية التي لا تطابق منطق العلم والأبحاث العقلية، وبهذه
الدوافع الدينية والإنسانية استطاعت أن تحقق نجاح لا بأس به إلا أن جهودها كانت محدودة
بسبب ما لقيته من صعوبات في سبيل الدعوة إلى الإسلام.
2
ـ مشروع غاندي (جماعة خدمة المنبوذين) : يرى الإنسان مشروع غاندي مشروعاً إنسانيا يرمي
إلى إنصاف المنبوذين، وإقناع الهنادكة بقبولهم في العائلة الهندوكية ، وتكوين وحدة
قومية من الفريقين. ولكن محاولته لم يقدر لها نجاح يذكـر بسبب دوافعه الدينية والسياسية
التي أدركها المنبوذون وذلك في محاولته لإشغالهم عن ترك الديانة الهندوكية وعن تكوين
قوة سياسية في البلاد .
3
ـ مشروع جواهر لال نهرو الاشتراكي : الذي يدعو إلى توزيع ممتلكات المسلمين بينهم وبين
المنبوذين الوثنيين بالتساوي، ولكن المسلمين اشترطوا أن يساووهم الهنادكة في هذا العمل
لذلك لم ينجح هذا المشروع أيضاً لأن دوافعهم السياسية كانت تختبئ وراء ستار الاشتراكية
وتتجه إلى محاولة الهنادكة إلى ضم عدد كبير من المسلمين والمنبوذين وهما العنصران الفقيران
في الهند لكي يصبحا تحت قيادتهم.
4
ـ قانون الحياة المدنية الهندي : لقد ساعد ما أصدرته الحكومة الهندية من قوانين المساواة
على تحسين أحوال هؤلاء المساكين بعض الشيء، إلا أنها لم تفلح في تحقيق المساواة الكاملة
بين الهندوك (بطبقاتهم الأربع) ـ المذكورة سابقاً ـ ومجتمع المنبوذين لامتناع البراهمة
من قبولهم في المعابد وازدياد نفور الهنادكة من المنبوذين لأن أرواح الآلهة تفر من
بقائهم.
ولعل أبرز من تعرض لقضيتهم في الأدب الهندي الروائي
الهندي مولك راج أناند في أشهر رواياته “Untouchable”
.
0 التعليقات:
إرسال تعليق