السلام مع أوجلان هل يقسم تركيا؟


السلام مع أوجلان هل يقسم تركيا؟
كي ينجو من الغرق‏,‏ لم يجد سوي أن يحضن الثعبان‏,‏ قول مأخوذ عن السلطان محمود الثاني ‏(1785‏ـ‏1839)‏ في نهايات احتضار الإمبراطورية العثمانية قبل انهيارها المروع تحت سنابك الكماليين بدايات القرن الفائت‏.‏
الآن يتندر به بسطاء الأناضول, في أسى على ماض لم يكن كله شر, وهم يعلقون علي المفاوضات بين حكومة العدالة والتنمية, التي يحلو لكثيرين من الناطقين بلغة الضاد أن يصنفوها بذات المرجعية الإسلامية, مع رموز منظمة حزب العمال الكردستاني المحظورة ذات المنطلقات الماركسية اللينينية, وفي مقدمتهم زعيمها عبدالله أوجلان القابع سجينا -يفترض مدي الحياة- بجزيرة إمرالي ببحر مرمرة غرب اسطنبول, وهي المفاوضات التي بدأها جهاز مخابرات بلادهم سرا في صقيع أسلو النرويجية, قبل عام ونصف العام, ومازالت تجري, وإن انتقلت إلي دفء شمال العراق, وتحديدًا بمحافظة السليمانية, التابعة لنفوذ حزب الاتحاد الوطني الكردستاني والذي يتزعمه الرئيس العراقي جلال طالباني الراقد حاليا في أحد المستشفيات الألمانية لتلقي العلاج, الفارق أنها صارت جهرًا, وبوتيرة متصاعدة تسابق الزمن, دون الإفصاح عن مضامينها.
وبداهة, وتأسيسًا علي المثل المأثور المشار إليه في مقدمة تلك السطور, اعتبر الساخطون الناقمون, الحكومة, هي الغريق الذي يبحث عن قشة يتعلق بها, أما الحية السامة, فتجسدها المنظمة ذات الحروف الثلاثة PPK, الملعونة صباحًا ومساءً, وهنا تبدو المعضلة, وبالتالي فالإشكال الكردي يبدو عصيًا علي الحل, ومن ثم فالسلام المبتغي والذي يتعجل أهل القرار في أنقرة علي قطف ثماره بين عشية وضحاها, مازال -عمليا- بعيد المنال, طالما أصر قطاع من الذهن الجمعي علي صد أي محاولة لنسيان دم أبنائه الذي سال بحورا أرتوت بها هضبة الأناضول علي مدار عقود ثلاث. ويخطئ من يظن أن الأمر يقتصر علي شرائح من عامة الناس, بل يمتد ليشمل قطاعات وفئات نافذة, ونخبًا سياسية فاعلة, وجميعها أبدت تململا واضحا من خطوات ممنهجة بعيدة عن الصدف, اعتبروها تمهيدًا لتجزئة البلاد وتفتيتها, يأتي في طليعتها السماح للغة الكردية أن تصبح جنبا إلي جنب اللغة الأم.
وفي سابقة نادرة, لم تحدث طوال السنوات العشر الماضية, وهي عمر العدالة والتنمية في السلطة, قدم نحو ألف شخص من أعضاء الحزب, يمثلون عددًا من المدن والبلدات تمثل الأركان الأربعة لتركيا, بدءًا من العاصمة ذاتها, مرورا بـ كير شهير في الوسط, وموغلا ودنيزلي وإزمير بمنطقة إيجه, وإنتهاء بـ كوجالي وسامسون وسينوب في الشمال علي البحر الأسود, استقالاتهم احتجاجا علي مسلك حكومتهم, ورضوخها لإرهاب الانفصالي أوجلان, وابتزاز من هم علي شاكلته, المتمردون الإرهابيون, إضافة إلي تحالفهم المحتمل مع حزب السلام والديمقراطية الذارع السياسية للمنظمة الانفصالية, والذي يدفع به رئيس الوزراء طيب اردوغان للمشاركة الفاعلة لصياغة الدستور الجديد الذي يواجه أصلا وضعًا مأزومًا لا مخرج آني لانتشاله منه.
صحيح سارع مسئولو الحزب الحاكم إلي التحرك العاجل, لشرح أبعاد ما يحدث من اتصالات ومحاورات لإقناع الكتل الرافضة وحثها علي العودة والتأكيد لهم أن الحاصل هو الصواب بعينه ولا بديل آخر عنه, إلا أن الصحيح أيضا هو إصرار أردوغان علي مواصلة ما بدأه, وهذا ما ذهب إليه نائبه بشير آطالاي والذي شدد علي أهمية استمرار خطة السلام دون تباطؤ, متهما قوي لم يسمها بأنها تريد إفشال المساعي الحثيثة التي تبذل لوضع حد للصراع المسلح المرير, واصفا مبادرة حكومته بالخطوة الشجاعة, زاعما, في الوقت نفسه, أنها تلقي دعمًا كبيرًا من كافة الأطياف في المجتمع التركي.
في المقابل لا تقدم صيحات الغضب والاستنكار بديلا يجنب البلاد النزيف الذي تتكبده الموجهات المسلحة والدليل علي ذلك هو أنها لم تتمكن من وأد تلك النزعات الاستئصالية بل علي العكس تزداد عنادًا وعنفا وتطرفا.
الطريف بل والمثير أن الكتابات التي تنتقد الحلول السياسية الانهزامية هي نفسها التي لا تفوت فرصة إلا وتطلع قراءها علي حكايات امتزجت فيها المأساة بالملهاة الباكية, وكلها نتاج حرب عبثية, منها تلك التي سردت قصة شابة كردية عاشت في جنوب شرق البلاد, حيث كان قدرها أن تكون البنت الوحيدة بين أحد عشر ذكرًا, ولأنها وجدت حياتها محصورة في خدمة أشقائها, أرادت أن تهرب, فلجأت إلي أبناء جلدتها في الجبال يشنون حرب عصابات ضد الجيش التركي وكانت حجتها ببساطة لا أريد غسل الصحون!
قس علي ذلك عشرات بل ومئات القصص لشباب انهاروا تحت سطوة الحاجة ولجئوا إلي الكلاشينكوف وزرع الألغام لعلهم يجدون في النهاية هويتهم التي طمست عمدًا, وهو ما سبق وحذر منه يشار كمال أديب تركيا الكبير, منذ أقل من عقدين عندما صرخ في وجه سليمان ديميريل رئيس البلاد آنذاك قائلا لا تفرض أخوتك علي الأكراد عنوة, المثير أن ديميريل المحنك لم يغضب بل علي العكس اعترف بوجود أزمة مستفحلة, ولكنه عجز عن اتخاذ خطوة واحدة إلي الأمام, وهي التي اتخذها أردوغان ويستعد للثانية والثالثة وبطبيعة الحال لا أحد يستطيع أن يتكهن متى ستكون الأخيرة؟.
سيد عبد المجيد - صحيفة الأهرام

0 التعليقات:

إرسال تعليق