التعددية الهندية في خطر؟

عرفت الحضارة الهندية بتعدداتها الدينية والثقافية واللغوية الهائلة والتعايش السلمي بين سكانها، وروح التسامح بين أتباع الديانات المختلفة التي قلما يشهد لها نظير، وفي الحقيقة تعتبر التعددية من أهم سمات الحضارة الهندية وقوتها المميزة، فلا عجب في تبني الهند بعد استقلالها عام 1947، دستوراً تقدمياً يضمن الحقوق والمواطنة المتساوية للمواطنين كافة بصرف النظر عن انتمائهم الديني واللغوي والثقافي والعرقي، كما فصل الدستور بين الدين والدولة، هذا إلى جانب اقتراح تدابير تكفل النهوض بمستوى الطبقات والشرائح المستضعفة والمهمشة في المجتمع الهندي.
ولحسن حظ الهند، كان الرعيل الأول من القادة السياسيين والمفكرين الذين تولوا مقاليد الحكم بعد الاستقلال وقاموا ببناء الهند الحديثة، زعماء متنورين وتقدميين وحكماء ومحبين للإنسانية، كأبو الهند مهاتما غاندي وجواهر لال نهرو، وأبو الكلام آزاد وكثيرين آخرين.
سارت الهند تحت قيادة حزب المؤتمر على هذا النهج التقدمي باستثناء فترة قصيرة في منتصف السبعينات. ولكن، بدأت رياح التغير السياسي تهب في مطلع التسعينات بصعود التيار الديني في السياسة الهندية على ظهر حركة هندوسية قوية لبناء معبد الإله راما في أيودهيا التي قادها حزب بهارتيا جاناتا (الحزب الحاكم حالياً) بمشاركة متحمسة من المنظمات الدينية الهندوسية، أسفرت عن هدم المسجد البابري في مدينة أيودهيا عام 1992، واضطرابات طائفية واسعة ذهب ضحيتها ألوف من الأبرياء من المسلمين والهندوس، ومنذ ذلك الحين بدأت السياسة الهندية تتصرف كالأرجوحة الأفعوانية صعوداً وهبوطاً من تيار سياسي إلى آخر.
تولى حزب بهارتيا جاناتا مقاليد الحكم مرة أخرى في مايو الماضي بقيادة ناريندرا مودي كان بمثابة نقلة نوعية في السياسة الهندية، إذ فاز الحزب بغالبية ساحقة. ومع ضعف في أداء حزب المؤتمر والأحزاب اليسارية والإقليمية في شكل هائل، لم يعد حزب بهارتيا جاناتا محتاجاً إلى حلفاء لتشكيل الحكومة (وإن كانت الحكومة الحالية ائتلافية). للمرة الأولى في تاريخ الهند الحديث لا يوجد أي نائب مسلم في البرلمان من الحزب الحاكم. ولكن هذا لا يهم كثيراً، المهم أنه ماذا يعني هذا بالنسبة إلى ثقافة التسامح واحترام الآخر والتعددية التي تميز بها المجتمع الهندي.
تصريحات بعض زعماء الحزب، وتحركات قادة بعض المنظمات الهندوسية، وتصرفات البعض الآخر إلى جانب صمت الحكومة إزاءها، كل ذلك يقودنا إلى القلق من أن هناك خطراً يحدق بالتعددية الهندية أو على الأصح الديمقراطية الهندية.
وفي الأسبوع الماضي سيطر على الإعلام الهندي خبر دخول زهاء 300 من المسلمين الفقراء الديانة الهندوسية في مدينة تاج محل (آكره)، على إغواء أو إكراه من بعض المنظمات الهندوسية، وسُمع دوي الخبر في البرلمان الهندي فرفع نواب أحزاب المعارضة أصواتهم احتجاجاً على هذا العمل الشنيع، معتبرين إياه منافياً للحرية الدينية وسعياً لإثارة عواطف الهندوس الدينية واستقطابهم سياسياً.
تتحرك حالياً منظمات هندوسية نحو تنفيذ مشروع «التطهير الديني» الذي يهدف إلى إعادة المسلمين والمسيحيين إلى الهندوسية «دينهم الأصلي»، وفق زعمهم، وطالبت أهل الخير من الهندوس بدعم المشروع مالياً.
وفي حين تصارح هذه المنظمات بمشروعها ومخططها وتحاول التنفيذ حيثما تجد سبيلاً وتحظى بتغطية واسعة في الإعلام، تقف الحكومة الهندية صامتة من دون أن تبدي استنكارها أو تقوم بإدانتها أو تتحرك لمنعها.
هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن هذه التحركات وفق رأي بعض الخبراء تبدو هادفة إلى إصدار قانون منع تحويل الدين في البرلمان الهندي الذي كانت هذه المنظمات تطالب به منذ مدة من الزمن، لكن الظروف لم تكن مواتية له. ولا يغيبن عن بالنا ما قامت وما تقوم به بعض المنظمات التبشيرية المسيحية في بعض المناطق الهندية من إدخال الفقراء والمنتمين إلى الطبقات المنبوذة إلى المسيحية بالإغراء المادي مهما أنكر ذلك النشطاء المبشرون، وعليه فقد تكون تحركات المنظمات الهندوسية الأخيرة رد فعل ضد المبشرين المسيحيين. ألا يجب تجريم كل محاولات الإغراء والإكراه على تغيير الدين سواء كانت من الهندوس أو المسلمين أو المسيحيين أو غيرهم؟ كما يجب أن لا يفرض قيد أو حظر على قبول دين آخر إذا كان عن اقتناع، وعلى هذا فإن ما تقوم به هذه الجماعات لا ينافي الديمقراطية فحسب، بل أيضاً يمس حقوق الإنسان الأساسية التي تنص عليها الشرعيات الدولية.
في هذا السياق تجدر الإشارة إلى تصريحات أدلى بها كبار زعماء الحزب الحاكم التي لا تنافي روح التعددية والديمقراطية فحسب، إنما تنافي الدستور الهندي أيضاً، ومنها ما جاء على لسان وزيرة الشؤون الخارجية الهندية سوشما سواراج، إذ طالبت بالاعتراف بـ «بهاغوات غيتا» - الكتاب المقدس لدى الهندوس - كتاباً قومياً، هذا ما أثار جدلاً واسعاً ونقداً شديداً من أحزاب المعارضة، ينص الدستور الهندي على كون الدولة الهندية محايدة في شأن الدين، ويكفل المعاملة السوية بين الديانات وهذا ما تم قصده من مصطلح «العلمانية» في الدستور الهندي. الدولة الهندية دولة علمانية بمعنى أن الدولة لا دين لها وأنها لا تميز ديناً على آخر على أساس الأكثرية أو الأقلية.
لكن الأخطر من كل هذا ما ورد على لسان أحد نواب الحزب في البرلمان ساكشي مهاراج الذي وصف قاتل أبو الوطن مهاتما غاندي ناثو رام غودسيه بـ «محب الوطن»، علماً أن غاندي ضحى بحياته من أجل المسلمين في شبه القارة الهندية. من الطبيعي أن يثير ذلك حفيظة الهنود، خصوصاً أعضاء حزب المؤتمر، فاعتذر ساكشي وتراجع عن قوله، ولكن يبقى السؤال: كيف يمكن نائباً في البرلمان أن يعتبر قاتل أبو الوطن محباً للوطن، ألا ينم هذا عن منهج فكري خطير جداً؟
تشير الأحداث الأخيرة في الهند إلى صعود التيار الديني في السياسة وهيمنة الأكثرية على الأقلية، وإن كانت الحكومة الهندية غير شريكة في هذه العمليات بصفة مباشرة إلا أن صمتها إزاء هذه الأحداث التي تقوم بها منظمات متطرفة وأيضاً بعض زعمائها البارزين يثير الكثير من التساؤلات، فيما يرى المحللون وزعماء الأحزاب من دون الحزب الحاكم أن صمت الحكومة قد يُعلل برضاها لأنها قد تساعدها في استقطاب الهندوس للتصويت للحزب الحاكم. أياً كان الأمر، فإن هذه الأحداث لا تبشر بالخير للديمقراطية الهندية. والنموذج الهندي للتعددية والتسامح والديمقراطية الذي يُضرب به المثل في العالم لا يُمكن أن يتحقق إلا بتنفيذ الدستور الهندي لفظاً وروحاً والامتثال للتقاليد الهندية المتميزة بروح التسامح والمودة واحترام الآخر، ولا بد من سيادة هذا النموذج في بلد يزخر بالتعدديات الهائلة.
يتطلع العالم إلى الهند ليأخذ منها درساً في التعايش السلمي واحترام التعدديات والتسامح، وهي تمتلك بالفعل ما يؤهلها لتكون نموذجاً يحتذى به، ولكن، لن يتأتى هذا إلا بتعزيز الديمقراطية، وتعـــزيز المواطنة وسيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان، وأنا متفائل بأنه على رغم التحديات الكثيرة اليوم فإن الهند ستخرج منها منتصرة بناء على قوتها الداخلية التي جعلت منها حضارة إنسانية عبر التاريخ.
مجيب الرحمن - كاتب من الهند 
المصدر : صحيفة الحياة اللندنية

0 التعليقات:

إرسال تعليق