بينما ينظر المجتمع
الدولي مشدوهًا إلى ممارسات تنظيم "الدولة الإسلامية" في العراق وسوريا،
يستمر القتل بصمت في منطقة أخرى من العالم. ففي أفغانستان وباكستان واليمن وسيناء
بمصر والصومال، لا تفسد حياة الناس اليومية بسبب ممارسات "داعش" و"طالبان"
بقدر ما تفسدها آلات القتل الأمريكية المُسيَّرة بدون طيار.
في عام 2013، أصابت
طائرة أمريكية بدون طيَّار سيَّارة بيك أب تعود لعائلة رشيد في إقليم كونار شرقي أفغانستان.
أربعة عشر راكبًا -معظمهم من النساء والأطفال- قتلوا في هذا الهجوم، الذي لم ينجُ منه
أي شخص سوى الطفلة عائشة البالغة من العمر أربعة أعوام - ومع ذلك فقدت إحدى يديها وأصيبت
بإصابات خطيرة في الجزء السفلي من جسمها، في حين لم يتبقَّ أي شيء من أنفها وعينينها.
وبعد أن علم أقارب
عائشة بهذا الهجوم، توجَّهوا إلى موقعه - ووجدوها. ولكن مع ذلك لم يكن بالإمكان فعل
الكثير من أجلها في المستشفى بمدينة أسد أباد القريبة. فعائشة لم تفقد عائلتها فقط،
بل لقد فقدت أيضًا وجهها وإلى الأبد. وفي الوقت نفسه صرَّح حلف الناتو بأنَّه في هجوم
نفَّذته طائرة من دون طيَّار في إقليم كونار لم يُقتل سوى مقاتلين مسلَّحين من حركة
طالبان. لقد تجاهل حلف الناتو ذكر أي شيء حول عائشة وعائلتها.
الضحايا مدنيون
لم يكن تصريح الناتو
هذا مفاجئًا جدًا. "فكثيرًا ما يوصف الضحايا المدنيون في المناطق الأفغانية النائية
من قبل المحتلين كمقاتلين من حركة طالبان. وغالبًا ما يُنسى الأمر بسرعة"، مثلما
يقول الكاتب والمحلل السياسي الأفغاني وحيد مزده.
لقد قُدِّر للأفغاني
إسماعيل زدران المقيم في ألمانيا أن يخوض بنفسه تجربة مشابهة. فقبل بضعة أعوام قُتل
ابن عمه -صادق رحيم جان، الذي كان عمره حينها واحدًا وعشرين عامًا- بواسطة طائرة من
دون طيَّار في إقليم باكتيا الأفغاني. ولم تتحدَّث حينها الجهات التابعة لحلف الناتو
وحدها، بل كذلك تحدَّثت بعض وسائل الإعلام الرئيسية الأفغانية فقط حول مصرع قائد من
حركة طالبان في هذه الضربة.
هناك حادث آخر
مشابه تم الكشف عنه من قبل الصحفي الأمريكي جيرمي سكاهيل وصحفيين آخرين. وفي هذا الحادث
تم قتل عدة مدنيين أفغان من قبل جنود أمريكيين في إقليم باكتيا أيضًا. ولم يعترف حلف
الناتو بأنَّ القتلى لم يكونوا من مقاتلي حركة طالبان إلاَّ بعدما تحدَّث بعض الصحفيين
حول هذا الحادث.
ولكن لنَعُد إلى
قضية عائشة: ففي أثناء إقامتها في مستشفى كابول، تلقَّت هذه الطفلة زيارة من الرئيس
الأفغاني السابق حامد كرزاي. وفي مقابلة أجريت معه في وقت لاحق، وصف الرئيس الأفغاني
السابق كيف انهمرت دموعه أثناء وجود هذه الطفلة التي طُمِسَتْ معالمُ وجهها. وذكر كرزاي
أنَّ عائشة سوف تُنقل قريبًا على ما يبدو إلى الولايات المتَّحدة الأمريكية من أجل
العلاج.
وفي هذه الأثناء
لم تعد عائشة موجودة في أفغانستان. وأقاربها -الذين اعتنوا بها حتى ذلك الحين- لم يكونوا
يعرفون في البداية إلى أين تم نقل هذه الطفلة. ومن جانبهم لم تكن توجد أيضًا أية موافقة
على علاجها في الولايات المتَّحدة الأمريكية. وحتى يومنا هذا يرى أقاربها -وعلى رأسهم
عم عائشة- أنَّ هذه الطفلة تم نقلها بشكل متعمَّد بهدف إبعادها عن الأضواء واهتمام
الرأي العام. فعلى أية حال كان من الممكن أن تتحوَّل هذه الطفلة التي أصبحت من دون
وجه إلى رمز مُحزن للحرب غير المشروعة التي تخوضها الولايات المتَّحدة الأمريكية بطائرات
من دون طيَّار.
توصَّل قبل فترة
قصيرة "مكتب الصحافة الاستقصائية" (TBIJ) البارز ومقره في لندن إلى نتيجة مفادها
أنَّ أفغانستان هي البلد الأكثر تعرُّضًا في العالم للقصف بالطائرات من دون طيَّار.
وهذه حقيقة لا يتم ذكرها إلاَّ نادرًا، ذلك لأنَّ معظم الناس يربطون حرب الطائرات بدون
طيَّار بدول مثل الصومال واليمن أو باكستان.
مسرح الحرب
تمثِّل حاليًا
مناطق البشتون القبلية الواقعة بين أفغانستان وباكستان وكذلك منطقة وزيرستان المسرح
الرئيسي لحرب الطائرات من دون طيَّار. ويطلق البشتون الذين يعيشون هناك على آلات القتل
هذه المسيَّرة من دون طيَّار اسم "ملائكة الموت".
تُحدِّد الطائرات
بدون طيَّار شكل حياة الناس اليومية. على سبيل المثال لا يلعب الأطفال الصغار في الهواء
الطلق إلاَّ عندما تكون السماء ملبَّدة بالغيوم. وذلك لأنَّ "ملائكة الموت"
تظهر في العادة تحت السماء الزرقاء الصافية. فعندئذ يتمتَّع الطيَّار الذي يتحكَّم
بالطائرة من دون طيَّار -ويجلس ربما في مكان ما في مدينة لانجلي الأمريكية أو في واشنطن
أو في قاعدة رامشتاين الأمريكية الموجودة في ألمانيا- بالرؤية الأفضل من أجل القتل.
يعرض فيلم
"طائرة بلا طيَّار" لمخرجة الأفلام الوثائقية النرويجية تونيه شَيّ حياة
الناس اليومية في وزيرستان. تقول تونيه شَيّ: "فقط أثناء عملنا الميداني فهمنا
تمامًا حجم الخوف الذي يعيش معه الناس هناك". وتضيف أنَّ "جميع الأهالي مصابون
بصدمة".
طارق عزيز -فتى
من وزيرستان- كان في سن السادسة عشر حين قرَّر ألاَّ يتحمَّل هذا التهديد اليومي لفترة
أطول. كان طارق يحب لعب كرة القدم وكان علاوة على ذلك يفعل أيضًا في معظم الأحيان ما
يقوم به أثناء وقت الفراغ أي فتى آخر في عمره. والفرق الوحيد هو أن طارق كان يبدي معارضته
للغارات التي تشنها الولايات المتَّحدة الأمريكية بطائرات دون طيَّار وقد شارك بنشاط
في مظاهرات ضدّ حرب الطائرات بلا طيَّار، مثل مشاركته في مسيرة احتجاج خرجت في عموم
البلاد بدعوة من السياسي الباكستاني الشعبي عمران خان. لقد أقيم هذا الحدث قبل فترة
قصيرة من وفاة طارق عزيز.
في شهر نوفمبر
2011 التقى الصحفي الاستقصائي براتاب شاترجي، الذي يعمل لصالح منظمات من بينها أيضًا
"مكتب الصحافة الاستقصائية"، بطارق قبل اثنتين وسبعين ساعة من قتله. ذهب
حينها برفقة هذا الناشط الشاب إلى اجتماع استشاري لمجلس النواب الأفغاني "اللويا
جيرجا"، التقى فيه شيوخ قبائل وزيرستان. وقد احتلت غارات الطائرات بدون طيَّار
مكان الصدارة في هذا الاجتماع. وحتى ذلك الوقت سقط في منطقة الحدود الأفغانية الباكستانية
وحدها أكثر من ألفين وثلاثمائة شخص ضحية للقنابل التي تلقيها "ملائكة الموت".
عندما كان طارق
وابن عمِّه وحيد البالغ من العمر اثني عشر عامًا في طريقهما إلى مدينة ميران شاه، من
أجل إحضار عمَّتهما من حفل زفافها، أصيبت سيَّارتهما بواسطة طائرة بدون طيَّار. وعلى
الفور سقط الطفلان قتيلين. وبذلك ارتفع حينها عدد الأطفال الذين قتلتهم طائرات من دون
طيَّار من مائة وثلاثة وسبعين طفًلا إلى مائة وخمسة وسبعين طفلاً. واليوم في عام
2014، يدور الحديث بالإجمال حول وجود أكثر من ألفين وخمسمائة ضحية من ضحايا الطائرات
بدون طيَّار في وزيرستان وحدها. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أنَّ ضحايا الطائرات
بلا طيَّار في أفغانستان والصومال واليمن لا يزالون غير مشمولين قطّ في هذا العدد وهم
فضلاً عن ذلك مجهولون.
تعتبر إمكانيات
البحث والتحقيق حول موضوع الطائرات بدون طيَّار محدودة للغاية بالنسبة للصحفيين، لا
سيما وأنَّ هناك نقصًا في طواقم العاملين ميدانيًا في المناطق المتضرِّرة. يُعدّ مكتب
الصحافة الاستقصائية واحدًا من المنظمات القليلة التي تعمل في وزيرستان وغيرها من المناطق
القبلية وتتولى البحث والتحقيق بشكل منتظم. قبل فترة قصيرة توصَّل صحفيو مكتب الصحافة
الاستقصائية إلى نتيجة مفادها أنَّ اثني عشر في المائة فقط من ضحايا الطائرات بدون
طيَّار في باكستان وأفغانستان هم من المقاتلين المتطرِّفين، في حين أنَّ أربعة في المائة
فقط من جميع الضحايا يمكن وصفهم كأعضاء في تنظيم القاعدة وشركائه.
يقول الصحفي مرتضى
حسين، الذي يعمل لصالح الموقع الإعلامي الاستقصائي "ذا إنترسبت": "إنَّ
الأرقام والحقائق وكذلك حقيقة وجود أطفال مثل طارق يقتلون بشكل منتظم بواسطة طائرات
أمريكية بدون طيَّار - تشكِّك في مجمل سياسة البيت الأبيض في هذا الشأن". ويضيف:
"لقد ذكر باراك أوباما أنَّ ’العشرات من أعضاء تنظيم القاعدة‘ تم القضاء عليهم
في هذه المنطقة بواسطة طائرات بلا طيَّار. وعلى الأرجح أنَّه قصد ذلك حرفيًا".
أوباما يأمر بالقتل
في كلِّ يوم ثلاثاء
يقوم باراك أوباما بالتوقيع شخصيًا على أوامر القتل التي تنفِّذها طائرات بدون طيَّار.
وهكذا يزداد باستمرار طول القائمة المعروفة باسم "قائمة القتل". لقد أصبح
القتل بالتوقيع روتينًا لدى الرئيس الأمريكي الحائز على جائزة نوبل للسلام والذي يعتبر
ربّ أسرة.
وهذا كله يبدو
أبشع بكثير عندما نأخذ بعين الاعتبار أنَّ باراك أوباما قد قال ذات مرة مازحًا فيما
يتعلق بسياسة الطائرات من دون طيَّار التي يتَّبعها: "أنا جيِّد جدًا في القتل".
وهنا يتساءل المرء إن كان أوباما سوف يقول ذلك في وجه الطفلة الأفغانية عائشة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق