صعود الصين لا يعني انهيار الغرب


صعود الصين لا يعني انهيار الغرب
هذا المقال من سلسلة «اتجاهات عالمية» -للعام 2012- التي تضم مجموعة من المقالات الاستشرافية ذات الطابع الاستراتيجي والتحليلي يقوم بإعدادها نخبة من الأكاديميين وخبراء السياسة الدولية من الولايات المتحدة وخارجها ويصدر عن مجلس الاستخبارات الوطني كل 4 سنوات عقب الانتخابات الأمريكية الرئاسية مباشرة.
مقال اليوم بعنوان «هل يعني صعود الآخرين سقوط الغرب؟» لجيفري جيدمين رئيس معهد ليجاتوم بلندن يتحدث فيه عن نظام عالمي جديد يتشكل الآن بالفعل، وأنه بالرغم من العديد من التكهنات حول صعود قوى جديدة كالصين والهند لتحل محل الولايات المتحدة أو تتقاسم معها قيادة العالم عام 2030، إلا أنه من الصعوبة بمكان التصور بأن تلك التنبؤات قابلة للتحقيق، فهنالك صعوبات قد تواجهها تلك القوى بحيث تعرقل صعودها، وهنالك أيضًا فرصة متاحة للولايات المتحدة لتجنب المزيد من السقوط الذي يعتبر الكاتب أن السبب الرئيس له التحلل من القيم التي كانت تشكل الدرع الواقية للحلم الأمريكي، وفيما يلي ترجمة كاملة للمقال بقلم إبراهيم عباس:
انشغلت عقول الكثيرين منذ فترة حول نقاش عميق لا يزال مستمرًا حول ظاهرة ما يسمى بصعود الآخرين (وعلى الأخص الصين والهند)، وما يعنيه ذلك بالنسبة للنظام العالمي الليبرالي، بيد أن ما نعرفه حول هذا الموضوع يبدو واضحًا للغاية، فمنذ نحو ربع قرن تقريبًا، كانت نهاية الحرب الباردة مؤشرًا على نهاية الثنائية القطبية، وهو ما أدى إلى مزيد من التقارب في العلاقات الدولية بفعل العديد من العوامل مثل حجم السكان، النمو الاقتصادي، العزة القومية، والطموحات الإستراتيجية، بما أدى إلى تغيرات نسبية في خريطة القوى العالمية بدأت ملامحها في التبلور بالفعل، لكن يبدو من الواضح أيضًا أننا نضيع الكثير من الوقت في توقع أمور مثل ماذا يعني صعود الصين بالنسبة للنظام العالمي الجديد الذي ستكتمل ملامحه بعد نحو 20 عامًا؟، وهو سؤال قد لا نملك إجابة محددة له حتى الآن، فهناك من يردد بأن صعود الطبقة المتوسطة في الصين يمكن أن يصاحبه قدر أكبر من المشاركة السياسية خلال السنوات القادمة، وهو ما يعني أن تصبح السياسة الصينية أكثر توافقية وديمقراطية بما هي عليه الآن، وبما يقلل من النزعة القومية وفعل التهور لديهم، وهنالك من يرى في الصين المستقبل الدولة السلمية، والقوة الصاعدة المتدثرة بغطاء الاستقلال الاقتصادي من خلال شبكة التجارة العالمية التي تتمتع بها، وهو ما يشبه إلى حد كبير الخطأ الذي ارتكبناه في الماضي عندما اعتقدنا أن التقدم في التجارة العالمية ممكن أن يمنع نشوب الحروب، وأيضًا عندما اعتقدنا أن ألمانيا هي الدولة الوحيدة التي يمكن أن تلعب دورًا رياديًا على صعيد تحقيق السلام العالمي.
بالطبع فليس ذلك مدعاة للكف عن التنبؤ والتفكير في الاتجاهات الاقتصادية، والإنفاق الجماعي، والتركيبة السكانية، والاستقرار الاجتماعي في دولة كالصين، لكن دعونا نفكر في السياسة والمحفزات التي ينبغي علينا إتباعها ويكون من شأنها أن تساعدنا على تشكيل نظام عالمي جديد يتوافق مع مصالحنا ويدعم قيمنا ويعمل في ذات الوقت على تحقيق الأمن والاستقرار والرخاء للعالم، وليس من قبيل التواضع ونحن نتأهب لمواجهة هذا التحدي القول إن مفاتيح المستقبل التي تساعدنا على تحقيق هذا الهدف لا تزال في أيدينا وليس في أيديهم، خلال الكساد الكبير الذي واجهناه عام 2008 وما خلفه من مشاكل الديون وعدم قدرتنا على وضع الإنفاق على البرامج المستحقة تحت السيطرة، والعملة الأوروبية الموحدة (اليورو)، كل ذلك تسبب لنا في جروح غائرة إن لم يتم معالجتها، فإنها ستؤدي إلى ضياع تلك المفاتيح وانتقالها إلى أيديهم، وهو ما سيترتب عليه تقويض أساساتنا والحد من قدرتنا على النمو والازدهار، وبشكل عام عرقلة تقدمنا خلال العقود المقبلة.
القيم.. مفتاح العبور إلى المستقبل
والحقيقة أنه ما كان يبدو في البداية على أنه أزمة في النظام المالي سرعان ما اتضح أنه أزمة في القيم، ففي حالة الولايات المتحدة يمكننا التقرير بأن سر التفوق الذي ظلت تحتفظ به خلال عقود طويلة يكمن في التمسك بالقيم، لكن هذا التفوق سرعان ما بدأ يخفت تدريجيًا مع تلاشي المبادئ الأساسية التي كانت سائدة في المجتمع الأمريكي التي كانت من المكونات الأساس للحلم الأمريكي، فعلى صعيد السياسة الخارجية كنا دائمًا في الوضع الجيد دائمًا عندما كنا نوازن بين مصالحنا وقيمنا، وعندما كنا ندمج القيم الأمريكية بالقيم العالمية، بما كان يمكننا من العمل معًا بشكل وثيق وبما لا يتعارض أيضًا مع مصالح الدول الأخرى، وعندما تراجعت القيم الإنسانية في الداخل، فإنه أصبح من غير المستغرب أن تسود الغطرسة في تعاملنا وعلاقاتنا مع الآخرين.
أما فيما يتعلق بدول الاتحاد الأوروبي فإننا يمكن أن نتبين أيضًا أزمة مماثلة في القيم، ويتضح تفاقم الأزمة الأوروبية أكثر ما يتضح بالخطأ الاستراتيجي المميت الذي تمثل في إجبار دول الاتحاد على اعتماد عملة موحدة في العقد الماضي بالرغم من أن العديد من دول الاتحاد لم تكن ترغب في ذلك، بينما توجد دول أخرى كانت غير قادرة ببساطة على اعتماد اليورو، وهو ما يدفع إلى التساؤل: ماذا ترتب على ذلك؟، من الواضح أن تلك التجربة كانت مستقاة من دروس مزيفة من التاريخ شابها الكثير من الغرور والطموح للنخب، والنتيجة أصبحت واضحة: المشروع الذي كان يهدف إلى توحيد أوروبا أدى إلى نتيجة عكسية. هنالك دروس يجب أن نستفيد منها ونحن نتطلع إلى بناء نظام عالمي ليبرالي قوي، فمن الأهمية بمكان أن نرفض الانعزالية وحماقة البعض ممن يريدون منا أن نعود مرة أخرى إلى التقوقع (كما كانت أمريكا في القرن التاسع عشر)، فأمريكا وحلفاؤها ينبغي أن يظل شغلهم الشاغل العمل على بزوغ نظام عالمي جديد لكن لابد من إظهار بعض التواضع، وأن نتفهم بشكل أفضل تلك المجالات التي نسيطر عليها بشكل أكبر وتلك التي نسيطر عليها بشكل أقل، ومركزيًا، دعونا نتحمل المسؤولية كاملة إزاء صحة وحيوية الغرب وننظر إلى الأزمة الحالية من منظارها الحقيقي كتحد جديد، وأيضًا كفرصة سانحة تتيح لنا النقد الذاتي والاختبار الذاتي وضبط النفس، فقد حان الوقت للتكيف والنهوض مجددًا وإذا لم يتمكن الغرب من حل مشاكله ووضع أجندة تتلاءم مع مستقبله فكيف سيكون في مقدورنا أن ندعي أن بإمكاننا التأثير والتحكم في الصعود السلمي للآخرين؟

0 التعليقات:

إرسال تعليق