العلمانية والديمقراطية في الهند مهددتان

العلمانية والديمقراطية في الهند مهددتان
للمرة الثالثة خلال فترة قصيرة يصل إلى الحكم في دولة نامية عبر انتخابات ديمقراطية ونزيهة حزب يرفع شعارات دينية. «الإخوان المسلمون» نجحوا في مصر وفي تونس في الوصول إلى الحكم، ونجح المتطرفون الهندوس في الهند. وفي الحالات الثلاث لم يخف زعماؤهم إيمانهم بشعارات الليبرالية الاقتصادية الجديدة، أي المتوحشة، وحرصهم، أو على الأقل عدم ممانعتهم، في إقامة علاقات قوية بالشركات العالمية الكبرى وفتح الأسواق والاندماج من دون حرص أو روية في مسيرة العولمة. كان بادياً بوضوح أن هذه الأحزاب اختارت طريق التعاون مع طبقة كبار رجال الأعمال وأبدت استعدادها لتقديم تنازلات ضريبية ومزايا تفضيلية لهذه الطبقة على حساب مبادئ المساواة ومصالح الطبقة الوسطى، وهي الطبقة التي قادت في الأساس أفكار التغيير ورسخت مبادئ الديموقراطية.
جاء إلى رأس الحكم في نيودلهي حزب يقوده زعيم يجمع في شخصيته التطرف الديني والتطرف القومي في عقيدة واحدة. يحدث هذا التطور الهائل في مسيرة الديمقراطية الهندية بعد ما يقرب من 67 عاماً حكم خلالها أو معظمها (54 سنة) حزب المؤتمر الهندي منفرداً أو متحالفاً مع أحزاب صغيرة. خلال هذه الفترة كان الفساد يزداد تجذراً في المجتمع حتى بلغ حداً لم يعد ممكناً عنده استمرار الهند في تحقيق معدلات مرتفعة من النمو. يكفي تدميراً لثقة الناس في بلادهم وفي سياسييهم أن يعرف المواطنون أنه في ظل فساد تفاقم خلال العقد الأخير زاد عدد أصحاب البلايين في الهند من ستة أفراد إلى واحد وستين فرداً، وأن الفساد خلال هذا العقد الأخير بدّد ما قيمته ثلاثة أضعاف ما أنفقته حكومة الهند على برامج الرعاية الصحية والاجتماعية.
تعددت في الهند كما في غيرها درجات وأنواع الفساد. هناك الفساد عند القمة حيث تتبادل عائلات كبار رجال الأعمال والوزراء والشخصيات السياسية الكبيرة منافع الرشوة، وحيث يرشح رجال الأعمال عملاء لهم من السياسيين لوزارات بعينها، وحيث تصدر قوانين تعفي رجال الأعمال من ضرائب وتحميهم من ملاحقات قضائية. هناك أيضا مستوى الشارع، حيث يمارس أفراد الشرطة والأمن القومي والمواطنون العاديون الفساد بأشكال عدة، أهمها بطبيعة الحال الرشوة النقدية. تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 75 في المائة من سكان الهند، من فقراء ومتوسطي الحال، يمارسون هذا النوع من الفساد. اتضح مثلا أن ثلثي سكان الهند يتعاملون بالرشوة مع رجال الشرطة وأن 40 في المائة مارسوا الرشوة مع مأموري الضرائب و45 في المائة تبادلوا منافعها مع قضاة ورجال النيابة.
النوع الثالث، هو هذا النوع من الفساد الجديد الذي تمارسه جمعيات المجتمع المدني ومنظماته وقادته، عن طريق الأنشطة الإنسانية التي يقومون بها، كالرعاية الصحية والاجتماعية وبخاصة المتعلقة بملاجئ الأيتام والعجزة والمعوقين.. وغيرها من الأنشطة التي يجمعون لها الأموال، يختلسون منها ما يستطيعون، ويكشفون عن القليل المتبقي منها ليرشوا به أجهزة الترخيص والرقابة والمراجعة.
لذلك لم يأت فوز حزب ديني وقومي متطرف، كحزب «بهاراتيا جاناتا» الذي يقوده نارندرا مودي من فراغ، إذ شهدت الهند في السنوات الأخيرة مظاهر عديدة للاحتجاجات الشبابية. خرجوا يحتجون ضد تفاقم ظاهرة التحرش الجنسي، وانهيار الأخلاق العامة، وضد انحسار أنشطة الرعاية الاجتماعية التي كان يكفلها نظام شبه اشتراكي سنّه حزب المؤتمر في بداية مرحلة الاستقلال على يد جواهر لال نهرو. احتج الشباب كذلك على فساد الحياة السياسية وسوء إدارة أموال الدولة وتراجع مستوى التعليم. واللافت للانتباه أن هذه الاحتجاجات حدثت في ظل تقدم واضح في معدلات النمو الاقتصادي. بمعنى آخر وقعت في وقت ظهر للشباب أن الفرص قد تتاح قريباً للعمل وتحسين مستوى معيشتهم. حدث هذا أيضا عندما كان العالم بأسره ينظر بإعجاب إلى محاولة الهنود كسب الرهان في سباق النمو مع الصين.
فجأة، توقف ارتفاع معدلات النمو وبدأت علامات الانحسار، وتكسر على صخرة الفساد أمل جيل من الشباب كانت توقعاته قد تجاوزت كل الحدود. عندئذ بدأ الحديث في أوساط المفكرين السياسيين في الهند عن «تغييرات» جذرية في الهند، وعن مستقبل مختلف تنسحب منه النخبة الحاكمة وتحلّ محلها نخبة جديدة.
بينما كانت العاصمة دلهي غارقة حتى أذنيها في وحل الفساد وتراجع الدخل القومي الهندي، كانت ولاية غوجارات الواقعة شمال شرقي شبه الجزيرة على ساحل المحيط الهندي والقريبة من باكستان، تموج بأرقام تكشف عن ارتفاع مطرد في معدل نمو اقتصاد الولاية. كانت غوجارات واقعة تحت سيطرة حزب «بهاراتيا جاناتا» المتطرف هندوسياً والمتطرف قومياً. حزب يقوده رجل يؤمن بكل ما هو مناقض لأفكار الديموقراطية الهندية ومبادئها، وبخاصة التسامح والعلمانية والتعددية بكافة اشكالها. راح يدعو لأصولية هندوسية تحكم وتتحكم وتنفرد بصوغ ثقافة جديدة للهند. يؤمن في الوقت نفسه بحرية الاقتصاد وأولوية القطاع الخاص.
المثير في قصة صعود السيد مودي في ولايته وعلى الصعيد القومي عن طريق الانتخابات الديمقراطية، أن الرجل لم يتراجع يوماً عن ميوله غير الديمقراطية. ظل يمارس الاستبداد والعنف خلال سنوات الحكم في ولاية غوجارات، ومبدياً بين الحين والآخر احتقاره لعديد من الممارسات الديمقراطية مستثنياً بطبيعة الحال مرحلة الانتخابات. أتصور على كل حال، وعلى رغم مواقف مودي المعلنة، أنه سيكون في الغالب أقل تصلباً في ممارسة سياسات التطرف والخضوع لتيارات التشدد داخل حزبه وفي الريف الهندي بشكل عام، بل أظن أنه قد يقود حزبه نحو طريق وسط يسمح له بأن يحقق انجازاته الاقتصادية، وبخاصة ما يعتمد منها على رضى المجتمع الدولي وتعاونه.
أتوقع أن يحدث هذا التحول نحو الاعتدال والتسامح إذا توفر شرطان:
أولهما أن يسود التعقل والاتزان في التعامل مع النزاع الباكستاني الهندي. إن أي اشتباك بين الدولتين أو عملية إرهابية كبيرة قد تؤدي إلى زيادة في تطرف وضغوط قواعد الحزب.
الشرط الثاني لإتمام التحول نحو الاعتدال والتسامح هو أن تتجنب الهند إثارة قضايا ونزاعات مع الصين تستغلها الولايات المتحدة لإقناع حكومة مودي بتصعيد المواجهة مع الصين والدخول في حلف آسيوي مناهض لها.
ديموقراطية الهند على المحك. هل تتحمل الصعوبات الناجمة أو المتوقعة نتيجة صدامات دينية تكاد تكون مؤكدة، ونتيجة توترات اجتماعية تكاد تكون هي الأخرى مؤكدة، ونتيجة مشكلات إقليمية بسبب انتقال بؤرة الصراع الدولي إلى آسيا، وبوادرها كثيرة.
 جميل مطر - كاتب مصري

المصدر صحيفة الحياة اللندنية

0 التعليقات:

إرسال تعليق