الطائرات دون طيار.. ومأزق المصالحة
الباكستانية
لقد أثار هجوم طائرة دون طيار أمريكية على سيارة كانت
تقل زعيم حركة طالبان الباكستانية حكيم الله محسود ومقتله فيه، ضجة سياسية واجتماعية
كبيرة في الأوساط الباكستانية، وانقسم الشعب الباكستاني تجاه استمرار تلك الهجمات وتوقفها
إلى مؤيد ومعارض.
فلماذا هذه الضجة الكبيرة هذه المرة فقط، مع أنها ليست
هي المرة الأولى؟ وما المواقف المختلفة تجاهها؟ وماذا يتوقع بعد هذا الهجوم بالذات
من رد فعل لحركة طالبان؟ وهل أوقعت تلك الهجمات الأمريكية جهود المصالحة الوطنية الباكستانية
في مأزق حقيقي؟
هذه بعض الأسئلة التي تدور في أذهان المهتمين بالشأن
الباكستاني، والمهتمين بأمر السلم والاستقرار في المنطقة، وهذا ما نريد مناقشته في
السطور المقبلة.
خلفية الهجمات
بدأت الهجمات الأمريكية بطائرات دون طيار على المناطق
الباكستانية المتاخمة للحدود الأفغانية عام 2004، وقتل في أول هجوم لها أحد قيادات
حركة طالبان الباكستانية هو المولوي “نيك محمد” يوم 18 يونيو 2004، وكان قد دخل لتوه
في هدنة مع الحكومة الباكستانية، ثم قتل في هجوم آخر لتلك الطائرات “بيت الله محسود”
زعيم حركة طالبان، وكان ذلك يوم الخامس من أغسطس 2009، ثم قتل أحد أهم قادة حركة طالبان
وهو “قاري حسين” في هجوم لتلك الطائرات يوم السابع من أكتوبر 2010.
ولم تتوقف تلك الهجمات، ففي هجوم آخر قتل “المولوي
نذير” في الثاني من يناير 2013، ثم شقيقه
“حضرت عمر” في أكتوبر 2013، وكانا من أهم القيادات الموالية للحكومة الباكستانية داخل
حركة طالبان المكونة من عشرات المجموعات المسلحة. ثم قتل في هجوم آخر لطائرة دون طيار
الشيخ “ولي الرحمن” يوم 29 مايو من هذا العام، وكان آخرهم “حكيم الله محسود” أمير حركة
طالبان، وكان مقتله في اليوم الأول من نوفمبر من العام الماضي.
وقد أعلنت الحكومة الباكستانية بعض الإحصائيات حول
خسائر هجمات طائرات من غير طيار قبل عدة أيام، وتشير تلك الإحصائيات إلى أن الحكومة
الباكستانية مقتنعة بجدواها.
فقد وردت في تلك التصريحات أن المناطق الباكستانية
تعرضت خلال السنوات الست الماضية لـ”317″ حادثة قصف بطائرات دون طيار أمريكية، قتل
في هذه الهجمات “2160″ إرهابيا، وسقط فيها “67″ ضحية من المدنيين.
ويرى المطلعون أن الحكومة الباكستانية قد وقعت اتفاقية
مع الحكومة الأمريكية عام 2004 في عهد الجنرال مشرّف، سمحت بموجبها للولايات المتحدة
باستخدام المجال الجوي الباكستاني والاستفادة من مطاراتها لإقلاع وهبوط طائراتها من
غير طيار.
وكانت هذه الطائرات تستخدم في البداية قاعدة “شاهين”
الجوية في إقليم السند الباكستاني، والذي طلب من الأمريكيين إخلاؤه بعد العمليات العسكرية
الأمريكية في داخل الأراضي الباكستانية لقتل أسامة بن لادن، مع أن الحكومات الباكستانية
المتعاقبة تنكر اتفاقية من هذا القبيل.
الضجة الأخيرة
قامت طائرة أمريكية من غير طيار يوم الجمعة، الأول
من نوفمبر من العام الماضي، بقصف بيت وسيارة في منطقة دربه خيل على بعد أربعة كيلومترات
من مدينة ميرانشاه عاصمة وزيرستان الشمالية، وقتل في هذا الهجوم بالإضافة إلى زعيم
حركة طالبان حكيم الله محسود عدد آخر من قادتها.
وقد أثار هذا الهجوم ضجة كبيرة في الأوساط الباكستانية،
فقد أعلنت “حركة إنصاف” بزعامة عمران خان التي تحكم إقليم خيبر بختونخوا أنها ستمنع
القوافل التموينية التابعة لحلف دول شمال الأطلسي. واستدعت الحكومة الباكستانية السفير
الأمريكي إلى مقر الوزارة الخارجية واحتجت على الهجوم، وأعلن تشودري نثار أحمد وزير
الداخلية الباكستاني بعد الهجوم أن باكستان ستراجع إستراتيجية التعاون مع أمريكا.
حدثت هذه الضجة مع أنه ليس هو الهجوم الأول من نوعه،
لأن الحكومة الباكستانية ومعها بعض الأحزاب السياسية الباكستانية مثل “حركة إنصاف”
وجمعية علماء الإسلام، والجماعة الإسلامية كانت تسعى منذ شهرين أو أكثر لتهيئة الأجواء
لإجراء محادثات جادة مع حركة طالبان الباكستانية بناء على توصية مؤتمر جميع الأحزاب
السياسية الباكستانية الذي عقد منذ فترة في إسلام آباد.
وكان من القرارات النهائية لذلك المؤتمر أن طريق استتباب
الأمن والاستقرار في باكستان هي المصالحة الوطنية والحوار الجاد مع جميع الأطراف، وخاصة
مع حركة طالبان الباكستانية، وكان من شروط حركة طالبان لبدء المحادثات وقف هجمات الطائرات
الأمريكية دون طيار.
وفي زيارته الأخيرة لواشنطن، ناقش رئيس الوزراء الباكستاني
محمد نواز شريف قضية هجمات طائرات أمريكية من غير طيار على المناطق القبلية الباكستانية
مع باراك أوباما، وطالبه بوقفها للتوصل إلى حل للقضية الأمنية مع حركة طالبان.
ولما اطمأنت الحكومة الباكستانية أن تلك الهجمات ستتوقف،
وكذلك اطمأنت قيادات حركة طالبان، وتركوا كل التدابير الوقائية والاحتياطات اللازمة،
حصل هذا الهجوم وراح ضحيته زعيم حركة طالبان مع بعض رفاقه الذين حضروا اجتماعا لمجلس
شورى حركة طالبان لمناقشة قضية المصالحة مع الحكومة الباكستانية التي كانت سترسل وفدا
من ثلاثة أشخاص لبدء المحادثات في اليوم التالي للهجوم، وهذا ما أثار غضب بعض الجهات
الرسمية والجهات السياسية التي تريد أن تخرج باكستان من دوامة العنف الذي وقعت فيها
بسبب دورانها في الفلك الأمريكي، منذ أن ورطها مشرّف -الديكتاتور الباكستاني السابق-
في الحرب الأمريكية على الإرهاب المزعوم منذ عام 2001.
مباركة باكستانية!
تظاهرت الحكومة الباكستانية الحالية أمام الرأي العام
الباكستاني والرأي العام العالمي بعد وقوع الهجوم الأخير بأنها فوجئت بذلك وأنها غاضبة
على أمريكا بسببه وأنها ستراجع سياساتها بخصوص تعاونها مع أمريكا، هذا ما ورد في تصريحات
رسمية على لسان وزير داخليتها تشودري نثار أحمد.
بينما ترى حركة طالبان وبعض الأحزاب السياسية الباكستانية
بالإضافة إلى بعض الشخصيات الأمريكية أن مثل تلك الهجمات لا يمكن أن تنفذ إلا بمباركة
من الحكومة الباكستانية وموافقة مؤسساتها الأمنية.
وقد صرحت حركة طالبان بعد الحادث بيوم أن الهجوم وقع
بتنسيق تام بين الأجهزة الاستخباراتية الباكستانية والأمريكية، وأنها ستنتقم لمقتل
زعيمها، كما صرح إيلن غريسن عضو لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأمريكي بأن مثل
هذه الهجمات لا يمكن أن تنفذ إلا بالتعاون من قبل الجهات الباكستانية، وأنها يمكن إيقافها
غدا إن أرادت الحكومة الباكستانية.
لكن الذي يبدو أن الجهات السيادية الباكستانية تريد
حل مشاكلها الأمنية مع حركة طالبان عن طريق الحوار والمحادثات، لأن الجيش الباكستاني
جرب كل الوسائل الأخرى وقتل الآلاف من سكان المناطق التي تتخذها حركة طالبان مقرا لها،
وارتكبت جرائم بشعة بحقهم، لكنه لم يستطع السيطرة على الوضع.
ومن هنا توصلت إلى أن الحل يكمن في الحوار، لكنها تفقد
الجرأة اللازمة للوقوف أمام المطالب الأمريكية، فلا تريد أن تغضب أمريكا وأن تخسر المعونات
الأمريكية بمطالبتها بما تقتنع به.
أهداف الهجوم الأخير
ترى بعض الجهات الباكستانية المؤيدة لوجهة النظر الأمريكية
أن أمريكا قتلت زعيم حركة طالبان لضلوعه في العديد من العمليات ضد القوات الأمريكية،
منها العمليات التي قام بها أحد الأردنيين في مدينة خوست الأفغانية والتي قتل فيها
مجموعة من عملاء الاستخبارات الأمريكية (سي آي أي) كما أنها كانت تعتبر زعيم حركة طالبان
تهديدا للأمن القومي الأمريكي.
لكن يبدو أن الهجوم الأخير في هذا التوقيت بالذات نُفّذ
للوصول إلى أهداف أخرى غير ما تعلن عنه هذه الجهات، ومن تلك الأهداف إفشال عملية الحوار
والتفاهم بين حركة طالبان والحكومة، لأن أمريكا تزعم أن المجموعات المسلحة المتواجدة
في الشريط الحدودي بين أفغانستان وباكستان تهدد أمنها القومي كما أنها تهدد أمن قواتها
المتواجدة في المنطقة، ومن ثم يجب القضاء عليها عن طريق استخدام القوة.
وتريد أمريكا استخدام الجيش الباكستاني لهذا الغرض
بأن يؤدي دور مليشيات مستأجرة، وهذا لن يكون إلا إذا شعر الجيش بأن تلك المجموعات تشكل
تهديدا للمصالح الباكستانية كذلك، وأما إذا توصلت تلك المجموعات إلى المصالحة مع الحكومة
ففي هذه الحالة لن تتمكن أمريكا من استخدام الجيش الباكستاني ضدها، كما حدث ذلك في
وزيرستان الجنوبية، فالمجموعات المسلحة تعهدت بعدم تعرضها للمصالح الباكستانية، ومن
هنا لم تتعرض لأي هجوم من قبل الجيش منذ عدة سنوات مع الإصرار الأمريكي ومطالبتها بصورة
متكررة بالهجوم عليها.
ويبدو أنها حققت هذا الهدف إلى حد كبير، فحركة طالبان
الباكستانية التي تتألف من حوالي 69 مجموعة مسلحة، وأهمها 25 جماعة مسلحة، لم تكن كل
فصائلها تؤيد عملية الحوار مع الحكومة، لكن شخصية حكيم الله محسود التي كانت تحظى باحترام
لدى أغلب تلك الفصائل كانت تحملها على قبول الحوار، أما الآن فمع من ستتحاور الحكومة
الباكستانية؟ وكيف ستجمع تلك الفصائل المختلفة؟
وعلى ذلك فإن الحكومة الباكستانية يجب أن تنتظر وقتا
طويلا ليبرز شخص آخر ويحتل نفس المكانة التي كان يحتلها حكيم الله محسود بين الفصائل
المسلحة، ويجب أن يكون ذلك الشخص مقتنعا بالسعي لحل المشاكل مع الحكومة عن طريق الحوار،
لتبدأ عملية المصالحة مرة أخرى، هذا ما كانت تريده أمريكا وقد حققته بهذه الضربة.
وقد أبدت أمريكا رغبتها بأن يتولى قيادة حركة طالبان
شخص يضمر كرها شديدا للحكومة الباكستانية لكي لا يبدأ الحوار مرة أخرى بسهولة، فقد
ورد في الإعلام الأمريكي خبر مفاده أن حركة طالبان ستختار الشيخ فضل الله (من منطقة
سوات الباكستانية) أميرا لها، وهذه رغبة أكثر من أن تكون معلومة، فإن الشيخ فضل الله
من ألد أعداء الحكومة الباكستانية، وقد حاولت الجهات الباكستانية اغتياله أكثر من مرة
في مخبئه في داخل الأراضي الأفغانية.
النتائج المتوقعة
قامت حركة طالبان بسلسلة من العمليات العسكرية داخل
باكستان بعد مقتل المولوي نيك محمد في هجوم لطائرات أمريكية دون طيار عام 2004، واستمرت
بنفس النهج إلى أن تناقصت تلك العمليات في الآونة الأخيرة.
ويبدو أن موقف المجموعات التي تتبنى الموقف المتشدد
حيال العمليات العسكرية داخل المدن الباكستانية سيتقوى بعد الحادث الأخير، وأن سلسلة
جديدة من التفجيرات والهجمات النوعية ستبدأ في المدن الكبيرة إن لم تتدارك الحكومة
الباكستانية هذا الأمر، وأن التفجيرات والهجمات لن يكون ضحيتها إلا المدنيون الأبرياء
من الشعب الباكستاني.
وكل هذه المصائب التي سيعاني منها الشعب الباكستاني
بسبب رد الفعل الذي ستتبناه حركة طالبان ليس لها سبب سوى ضعف الحكام والعنجهية الأميركية.
والمخلص الوحيد للحكام من هذه الورطة أن يرعوا مصالح
شعوبها ومصالح شعوب المنطقة المشتركة، وأن يجدوا في أنفسهم الجرأة على الوقوف في وجه
المصالح الأمريكية إذا تعارضت مع مصالح شعوبهم، وأن يستشعروا القدرة على التضحية في
سبيل ذلك، ولتدرك الحكومة الباكستانية أن استتباب الأمن في باكستان متوقف على الاستقرار
في أفغانستان، فإن لم ترد استقرار أفغانستان لذاته فلتسع إليه لأجل الاستقرار في باكستان.
0 التعليقات:
إرسال تعليق